فصل: مَنْ يُلْحَقُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأم ***


كِتَابُ الْجِهَادِ الْجِزْيَةِ

أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ ثُمَّ أَبَانَ جَلَّ وَعَلاَ أَنَّ خِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ أَنْبِيَاؤُهُ فَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ‏}‏ فَجَعَلَ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْفِيَائِهِ دُونَ عِبَادِهِ بِالْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ وَالْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ فِيهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ خَاصَّتِهِ صَفْوَتَهُ فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ فَخَصَّ آدَمَ وَنُوحًا بِإِعَادَةِ ذِكْرِ اصْطِفَائِهِمَا وَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَاِتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ وَذَكَرَ إسْمَاعِيلَ بْنَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا‏}‏ ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَعِمْرَانَ فِي الْأُمَمِ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ ثُمَّ اصْطَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْرِ آلِ إبْرَاهِيمَ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ قَبْلَ إنْزَالِهِ الْفُرْقَانَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ فَضِيلَتِهِ وَفَضِيلَةِ مَنْ اتَّبَعَهُ بِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا‏}‏ الْآيَةُ وَقَالَ لِأُمَّتِهِ‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ فَفَضِيلَتُهُمْ بِكَيْنُونَتِهِمْ مِنْ أُمَّتِهِ دُونَ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّهُ جَعَلَهُ فَاتِحَ رَحْمَتِهِ عِنْدَ فَتْرَةِ رُسُلِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ، فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَعَثَ إلَى خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَوْ أُمِّيِّينَ وَأَنَّهُ فَتَحَ بِهِ رَحْمَتَهُ وَخَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ، وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ وَقَضَى أَنْ أَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏، وَقَدْ وَصَفْنَا بَيَانَ كَيْفَ يُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

مُبْتَدَأُ التَّنْزِيلِ وَالْفَرْضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَلَى النَّاسِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَيُقَالُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ إنَّ أَوَّلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فَرَائِضَهُ كَمَا شَاءَ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ثُمَّ أَتْبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَرْضًا بَعْدَ فَرْضٍ فِي حِينٍ غَيْرِ حِينِ الْفَرْضِ قَبْلَهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَيُقَالُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ إنَّ أَوَّلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا مَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ فَمَرَّتْ لِذَلِكَ مُدَّةٌ‏.‏ ثُمَّ يُقَالُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يُعَلِّمَهُمْ نُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَخَافَ التَّكْذِيبَ وَأَنْ يُتَنَاوَلَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاَللَّهُ يَعْصِمُك مِنْ النَّاسِ‏}‏ فَقَالَ يَعْصِمُك مِنْ قَتْلِهِمْ أَنْ يَقْتُلُوك حِينَ تُبَلِّغُ مَا أُنْزِلَ إلَيْك فَلَمَّا أُمِرَ بِهِ فَاسْتَهْزَأَ بِهِ قَوْمٌ فَنَزَلَ عَلَيْهِ ‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَأَعْلَمَهُ مَنْ عَلِمَهُ مِنْهُمْ أَنَّهُ لاَ يُؤْمِنُ بِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَك جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلاَلهَا تَفْجِيرًا‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى ‏{‏بَشَرًا رَسُولاً‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا يُثَبِّتُهُ بِهِ إذَا ضَاقَ مِنْ أَذَاهُمْ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّك يَضِيقُ صَدْرُك بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك‏}‏ إلَى آخِرِ السُّورَةِ‏.‏

فَفَرَضَ عَلَيْهِ إبْلاَغَهُمْ وَعِبَادَتَهُ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْهِ قِتَالَهُمْ وَأَبَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِعُزْلَتِهِمْ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ‏:‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلاَغُ‏}‏ مَعَ أَشْيَاءَ ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَأَمَرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ لاَ يَسُبُّوا أَنْدَادَهُمْ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ الْآيَةُ مَعَ مَا يُشْبِهُهَا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ هَذَا فِي الْحَالِ الَّتِي فَرَضَ فِيهَا عُزْلَةَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ مِمَّا فَرَضَ عَلَيْهِ فَقَالَ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى‏:‏ ‏{‏إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ‏}‏‏.‏

الْإِذْنُ بِالْهِجْرَةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ زَمَانًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ مِنْهَا ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا فَيُقَالُ نَزَلَتْ ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا‏}‏ فَأَعْلَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ مَخْرَجًا وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً‏}‏ الآيَةَ‏.‏ وَأَمَرَهُمْ بِبِلاَدِ الْحَبَشَةِ فَهَاجَرَتْ إلَيْهَا مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ثُمَّ دَخَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي الْإِسْلاَمِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِفَةً فَهَاجَرَتْ إلَيْهِمْ غَيْرَ مُحَرِّمٍ عَلَى مَنْ بَقِيَ تَرْكَ الْهِجْرَةِ إلَيْهِمْ وَذَكَرَ اللَّه جَلَّ ذِكْرُهُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى‏:‏ ‏{‏فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ فِي هَذَا عَلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ الْمُقَامَ بِهَا وَهِيَ دَارُ شِرْكٍ، وَإِنْ قَلُّوا بِأَنْ يُفْتَنُوا، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ بِجِهَادٍ‏.‏ ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِالْجِهَادِ، ثُمَّ فُرِضَ بَعْدَ هَذَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُهَاجِرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، وَهَذَا مَوْضُوعٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

مُبْتَدَأُ الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَأَذِنَ لَهُمْ بِأَحَدِ الْجِهَادَيْنِ بِالْهِجْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ بِأَنْ يَبْتَدِئُوا مُشْرِكًا بِقِتَالٍ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ بِأَنْ يَبْتَدِئُوا الْمُشْرِكِينَ بِقِتَالٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏ الْآيَةُ، وَأَبَاحَ لَهُمْ الْقِتَالَ بِمَعْنَى أَبَانَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى ‏{‏كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ يُقَالُ‏:‏ نَزَلَ هَذَا فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ كَانُوا أَشَدَّ الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قِتَالِهِمْ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُقَالُ‏:‏ نُسِخَ هَذَا كُلُّهُ وَالنَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ حَتَّى يُقَاتَلُوا وَالنَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ الْآيَةُ وَنُزُولُ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي مَوْضِعِهَا‏.‏

فَرْضُ الْهِجْرَةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِهَادَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إذْ كَانَ أَبَاحَهُ وَأَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَرَأَوْا كَثْرَةَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اشْتَدُّوا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَفَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، أَوْ مَنْ فَتَنُوا مِنْهُمْ فَعَذَرَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ الْمَفْتُونِينَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ‏}‏ وَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا وَفَرَضَ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ الْخُرُوجَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ، وَلاَ يُمْتَنَعُ» فَقَالَ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ تُوُفِّيَ تَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ فَلَمْ يُهَاجِرْ ‏{‏الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَا كُنْتُمْ‏}‏ الآيَةَ‏.‏

وَأَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً‏}‏ إلَى ‏{‏رَحِيمًا‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَيُقَالُ عَسَى مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةٌ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ فُتِنَ عَنْ دِينِهِ بِالْبَلَدِ الَّذِي يُسْلِمُ بِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِقَوْمٍ بِمَكَّةَ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ مِنْهُمْ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَغَيْرُهُ إذْ لَمْ يَخَافُوا الْفِتْنَةَ «وَكَانَ يَأْمُرُ جُيُوشَهُ أَنْ يَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ إنْ هَاجَرْتُمْ فَلَكُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْ أَقَمْتُمْ فَأَنْتُمْ كَأَعْرَابٍ وَلَيْسَ يُخَيِّرُهُمْ إلَّا فِيمَا يَحِلُّ لَهُمْ»‏.‏

أَصْلُ فَرْضِ الْجِهَادِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَمَّا مَضَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةٌ مِنْ هِجْرَتِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا عَلَى جَمَاعَةٍ بِاتِّبَاعِهِ حَدَثَتْ لَهُمْ بِهَا مَعَ عَوْنِ اللَّهِ قُوَّةٌ بِالْعَدَدِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَهَا فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْجِهَادَ بَعْدَ إذْ كَانَ إبَاحَةً لاَ فَرْضًا فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ‏}‏ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ‏}‏ الآيَةَ‏.‏ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏ وَقَالَ ‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ‏}‏ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ‏}‏ إلَى‏:‏ ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ‏}‏ الآيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمًا تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلاَمَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوك‏}‏ الآيَةَ، فَأَبَانَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْجِهَادَ فِيمَا قَرُبَ وَبَعُدَ بَعْدَ إبَانَتِهِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَكَان فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى ‏{‏أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ وَسَنُبَيِّنُ مِنْ ذَلِكَ مَا حَضَرَنَا عَلَى وَجْهِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ وَقَالَ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ مَعَ مَا ذُكِرَ بِهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَأُوجِبَ عَلَى الْمُتَخَلِّفِ عَنْهُ‏.‏

مَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِهَادَ دَلَّ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ الْخُرُوجَ إلَى الْجِهَادِ عَلَى مَمْلُوكٍ، أَوْ أُنْثَى بَالِغٍ، وَلاَ حُرٍّ لَمْ يَبْلُغْ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا‏}‏ وَقَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ فَكَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَكَمَ أَنْ لاَ مَالَ لِلْمَمْلُوكِ، وَلَمْ يَكُنْ مُجَاهِدٌ إلَّا وَيَكُونُ عَلَيْهِ لِلْجِهَادِ مُؤْنَةٌ مِنْ الْمَالِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَمْلُوكِ مَالٌ، وَقَدْ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ‏}‏ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّ الْإِنَاثَ الْمُؤْمِنَاتِ‏.‏ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ‏}‏ وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ‏.‏ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ إذْ أَمَرَ بِالِاسْتِئْذَانِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ فَأَعْلَمَ أَنَّ فَرْضَ الِاسْتِئْذَانِ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَالِغِينَ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا‏}‏ فَلَمْ يَجْعَلْ لِرُشْدِهِمْ حُكْمًا تَصِيرُ بِهِ أَمْوَالُهُمْ إلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْعَمَلِ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَالِغِينَ، وَدَلَّتْ السُّنَّةُ ثُمَّ مَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مِثْلِ مَا وَصَفْت‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ شَكَّ الرَّبِيعُ قَالَ عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَشَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ عَبِيدٌ وَنِسَاءٌ وَغَيْرُ بَالِغِينَ فَرَضَخَ لَهُمْ، وَلَمْ يُسْهِمْ وَأَسْهَمَ لِضُعَفَاءَ أَحْرَارٍ بَالِغِينَ شَهِدُوا مَعَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السُّهْمَانَ إنَّمَا تَكُونُ فِيمَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لاَ فَرْضَ فِي الْجِهَادِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَهَذَا مَوْضُوعٌ فِي مَوْضِعِهِ‏.‏

مَنْ لَهُ عُذْرٌ بِالضَّعْفِ وَالْمَرَضِ وَالزَّمَانَةِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجِهَادِ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ الآيَةَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ‏}‏‏.‏

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَقِيلَ الْأَعْرَجُ الْمُقْعَدُ وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ الْأَعْرَجُ فِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي أَنْ لاَ حَرَجَ أَنْ لاَ يُجَاهِدُوا، وَهُوَ أَشْبَهُ مَا قَالُوا وَغَيْرُ مُحْتَمَلٍ غَيْرُهُ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِي حَدِّ الضُّعَفَاءِ وَغَيْرُ خَارِجِينَ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ، وَلاَ الصَّلاَةِ، وَلاَ الصَّوْمِ، وَلاَ الْحُدُودِ، وَلاَ يُحْتَمَلُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهَذِهِ الآيَةِ إلَّا وَضْعَ الْحَرَجِ فِي الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ الْغَزْوُ غَزْوَانَ‏:‏ غَزْوٌ يُبْعِدُ عَنْ الْمَغَازِي، وَهُوَ مَا بَلَغَ مَسِيرَةَ لَيْلَتَيْنِ قَاصِدَتَيْنِ حَيْثُ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ وَتُقَدَّمُ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَغَزْوٌ يَقْرُبُ، وَهُوَ مَا كَانَ دُونَ لَيْلَتَيْنِ مِمَّا لاَ تَقْصُرُ فِيهِ الصَّلاَةُ وَمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا كَانَ الْغَزْوُ الْبَعِيدُ لَمْ يَلْزَمْ الْقَوِيَّ السَّالِمَ الْبَدَنِ كُلِّهِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا وَسِلاَحًا وَنَفَقَةً وَيَدَعْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ قُوَّتَهُ إذَنْ قَدْرَ مَا يَرَى أَنَّهُ يَلْبَثُ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَ هَذَا دُونَ بَعْضٍ فَهُوَ مِمَّنْ لاَ يَجِدُ مَا يُنْفِقُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله‏:‏ نَزَلَتْ ‏{‏وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا وُجِدَ هَذَا كُلُّهُ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْجِهَادِ فَإِنْ تَهَيَّأَ لِلْغَزْوِ، وَلَمْ يَخْرُجْ، أَوْ خَرَجَ، وَلَمْ يَبْلُغْ مَوْضِعَ الْغَزْوِ، أَوْ بَلَغَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ مَرَضٌ، أَوْ صَارَ مِمَّنْ لاَ يَجِدُ فِي أَيِّ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَانَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَقَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْعُذْرِ، فَإِنْ ثَبَتَ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ وَوَسِعَهُ الثُّبُوتُ، وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّتُهُمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَغْزُوَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَلاَ يَثْبُتُ فِي الْغَزْوِ إنْ غَزَا، وَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ فَرْضًا وَيَتَطَوَّعَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالْغَزْوِ، وَمَنْ قُلْت لَهُ أَنْ لاَ يَغْزُوَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا غَزَا بِالْعُذْرِ وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يَلْتَقِ الزَّحْفَانِ، فَإِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا‏.‏

الْعُذْرُ بِغَيْرِ الْعَارِضِ فِي الْبَدَنِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ إذَا كَانَ سَالِمَ الْبَدَنِ قَوِيَّهُ وَاجِدًا لِمَا يَكْفِيهِ وَمَنْ خَلَفَ يَكُونُ دَاخِلاً فِيمَنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ، وَلاَ وَاحِدٌ مِنْ أَبَوَيْنِ يَمْنَعُهُ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَغْزُوَ بِحَالٍ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِ الدَّيْنِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا كَانَ يَحْجُبُهُ مَعَ الشَّهَادَةِ عَنْ الْجَنَّةِ الدَّيْنُ فَبَيَّنَ أَنْ لاَ يَجُوزَ لَهُ الْجِهَادُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِ الدَّيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لِمُسْلِمٍ، أَوْ كَافِرٍ، وَإِذَا كَانَ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُطِيعَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فِي تَرْكِ الْغَزْوِ فَبَيَّنَ أَنْ لاَ يُؤْمَرَ بِطَاعَةِ أَحَدِهِمَا إلَّا وَالْمُطَاعُ مِنْهُمَا مُؤْمِنٌ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ كَيْفَ تَقُولُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَةُ أَبَوَيْهِ، وَلاَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَكُونَ الْمُطَاعُ مُسْلِمًا فِي الْجِهَادِ، وَلَمْ تَقُلْهُ فِي الدَّيْنِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ الدَّيْنُ مَالٌ لَزِمَهُ لِمَنْ هُوَ لَهُ لاَ يَخْتَلِفُ فِيهِ مَنْ وَجَبَ لَهُ مِنْ مُؤْمِنٍ، وَلاَ كَافِرٍ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إلَى الْكَافِرِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَى الْمُؤْمِنِ وَلَيْسَ يُطِيعُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْغَزْوِ صَاحِبَ الدَّيْنِ بِحَقٍّ يَجِبُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ إلَّا بِمَالِهِ، فَإِذَا بَرِئَ مِنْ مَالِهِ فَأَمْرُ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَنَهْيُهُ سَوَاءٌ، وَلاَ طَاعَةَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْخُرُوجُ بِغَرَضِ إهْلاَكِ مَالِهِ لَدَيْهِ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَيْنِهِ وَلِلْوَالِدَيْنِ حَقٌّ فِي أَنْفُسِهِمَا لاَ يَزُولُ بِحَالٍ لِلشَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِمَا لِبِرِّهِمَا، فَإِذَا كَانَا عَلَى دِينِهِ فَحَقُّهُمَا لاَ يَزُولُ بِحَالٍ، وَلاَ يَبْرَأُ مِنْهُ بِوَجْهٍ وَعَلَيْهِ أَنْ لاَ يُجَاهِدَ إلَّا بِإِذْنِهِمَا، وَإِذَا كَانَا عَلَى غَيْرِ دِينِهِ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ أَهْلَ دِينِهِمَا فَلاَ طَاعَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ وَلَهُ الْجِهَادُ، وَإِنْ خَالَفَهُمَا وَالْأَغْلَبُ أَنَّ مَنْعَهُمَا سُخْطٌ لِدِينِهِ وَرِضًا لِدِينِهِمَا لاَ شَفَقَةً عَلَيْهِ فَقَطْ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْوِلاَيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا فِي الدِّينِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى مَا وَصَفْت‏؟‏ قِيلَ جَاهَدَ ابْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِهَادِ وَأَبُوهُ مُجَاهِدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَسْت أَشُكُّ فِي كَرَاهِيَةِ أَبِيهِ لِجِهَادِهِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاهَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُوهُ مُتَخَلِّفٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ وَيُخَذِّلُ عَنْهُ مَنْ أَطَاعَهُ مَعَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لاَ أَشُكُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَرَاهَتِهِمْ لِجِهَادِ أَبْنَائِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانُوا مُخَالِفِينَ مُجَاهِدِينَ لَهُ، أَوْ مُخَذِّلِينَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَأَيُّ الْأَبَوَيْنِ أَسْلَمَ كَانَ حَقًّا عَلَى الْوَلَدِ أَنْ لاَ يَغْزُوَ إلَّا بِإِذْنِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ يَعْلَمُ مِنْ الْوَالِدِ نِفَاقًا فَلاَ يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ طَاعَةٌ فِي الْغَزْوِ، وَإِنْ غَزَا رَجُلٌ وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ، أَوْ هُمَا مُشْرِكَانِ ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ فَعَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنْ وَجْهِهِ مَا لَمْ يَصِرْ إلَى مَوْضِعٍ لاَ طَاقَةَ لَهُ بِالرُّجُوعِ مِنْهُ إلَّا بِخَوْفِ أَنْ يَتْلَفَ وَذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ إلَى بِلاَدِ الْعَدُوِّ، فَلَوْ فَارَقَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَأْخُذَهُ الْعَدُوُّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِلتَّعَذُّرِ فِي الرُّجُوعِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ صَارَ إلَى بِلاَدٍ مَخُوفَةٍ إنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ فِيهَا خَافَ التَّلَفَ وَهَكَذَا إذَا غَزَا، وَلاَ دَيْنَ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّانَ فَسَأَلَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الرُّجُوعَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِنْ سَأَلَهُ أَبَوَاهُ، أَوْ أَحَدُهُمَا الرُّجُوعَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَوْفٌ فِي الطَّرِيقِ، وَلاَ لَهُ عُذْرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ لِلْعُذْرِ، وَإِذَا قُلْت لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَلاَ أُحِبُّ أَنْ يُبَادِرَ، وَلاَ يُسْرِعَ فِي أَوَائِلِ الْخَيْلِ، وَلاَ الرَّجُلِ، وَلاَ يَقِفُ الْمَوْقِفَ الَّذِي يَقِفُهُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَيْته عَنْ الْغَزْوِ لِطَاعَةِ وَالِدَيْهِ، أَوْ لِذِي الدَّيْنِ نَهَيْته إذَا كَانَ لَهُ الْعُذْرُ عَنْ تَعَرُّضِ الْقَتْلِ وَهَكَذَا أَنْهَاهُ عَنْ تَعَرُّضِ الْقَتْلِ لَوْ خَرَجَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِخِلاَفِ صَاحِبِ دَيْنِهِ وَأَحَدِ أَبَوَيْهِ، أَوْ خِلاَفِ الَّذِي غَزَا وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ وَصَاحِبُ دَيْنِهِ كَارِهٌ‏.‏

وَلَيْسَ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ الْغَزْوُ فَإِنْ غَزَا وَقَاتَلَ لَمْ يُعْطَ سَهْمًا وَيُرْضَخُ لَهُ مَا يُرْضَخُ لِلْمَرْأَةِ‏.‏

وَالْعَبْدُ يُقَاتِلُ فَإِنْ بَانَ لَنَا أَنَّهُ رَجُلٌ فَعَلَيْهِ مِنْ حِينِ يَبِينُ الْغَزْوُ وَلَهُ فِيهِ سَهْمُ رَجُلٍ‏.‏

الْعُذْرُ الْحَادِثُ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا أَذِنَ لِلرَّجُلِ أَبَوَاهُ فِي الْغَزْوِ فَغَزَا ثُمَّ أَمَرَاهُ بِالرُّجُوعِ فَعَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ حَادِثٍ وَالْعُذْرُ مَا وَصَفْت مِنْ خَوْفِ الطَّرِيقِ، أَوْ جَدْبِهِ، أَوْ مِنْ مَرَضٍ يَحْدُثُ بِهِ لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الرُّجُوعِ، أَوْ قِلَّةِ نَفَقَةٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ يَسْتَقِلُّ مَعَهَا، أَوْ ذَهَابُ مَرْكَبٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ مَعَهُ، أَوْ يَكُونَ غَزَا بِجُعْلٍ مَعَ السُّلْطَانِ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ مَعَهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَغْزُوَ بِجُعْلٍ مِنْ مَالِ رَجُلٍ فَإِنْ غَزَا بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ وَيَرُدَّ الْجُعْلَ، وَإِنَّمَا أَجَزْت لَهُ هَذَا مِنْ السُّلْطَانِ أَنَّهُ يَغْزُو بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ حَبْسُهُ فِي حَالٍ قُلْت عَلَيْهِ فِيهَا الرُّجُوعُ إلَّا فِي حَالٍ ثَانِيَةٍ أَنْ يَكُونَ يَخَافُ بِرُجُوعِهِ وَرُجُوعِ مَنْ هُوَ فِي حَالِهِ أَنْ يُكْثِرُوا وَأَنْ يُصِيبَ الْمُسْلِمِينَ خَلَّةٌ بِرُجُوعِهِمْ بِخُرُوجِهِمْ يَعْظُمُ الْخَوْفُ فِيهَا عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ لَهُ حَبْسُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا، فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الْحَالُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُخَلِّيَهُمْ إلَّا مَنْ غَزَا مِنْهُمْ بِجُعْلٍ إذَا كَانَ رُجُوعُهُمْ مِنْ قِبَلِ وَالِدٍ، أَوْ صَاحِبِ دَيْنٍ لاَ مِنْ عِلَّةٍ بِأَبْدَانِهِمْ فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ الرُّجُوعَ لِعِلَّةٍ بِبَدَنِهِ تُخْرِجُهُ مِنْ فَرْضِ الْجِهَادِ فَعَلَى السُّلْطَانِ تَخْلِيَتُهُ غَزَا بِجُعْلٍ، أَوْ غَيْرِ جُعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْجُعْلِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حَقِّهِ أَخَذَهُ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُهُ وَحَدَثَ لَهُ حَالُ عُذْرٍ وَذَلِكَ أَنْ يَمْرَضَ، أَوْ يُزْمِنَ بِإِقْعَادٍ، أَوْ بِعَرَجٍ شَدِيدٍ لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى مَشْيِ الصَّحِيحِ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِنِّي لاََرَى الْعَرَجَ إذَا نَقَصَ مَشْيُهُ عَنْ مَشْيِ الصَّحِيحِ وَعَدْوُهُ كُلُّهُ عُذْرًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، أَوْ ذَهَبَتْ نَفَقَتُهُ خَرَجَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ حَبْسُهُ عَلَيْهِ إلَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ إلَى فَرْضِ الْجِهَادِ بِقِلَّةِ الْوُجُودِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ حَتَّى يَكُونَ وَاجِدًا فَإِنْ فَعَلَهُ حَبَسَهُ وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ مَعَهُ فِي الْجِهَادِ حَتَّى يَنْقَضِيَ فَلَهُ إذَا فَعَلَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهُ‏.‏

وَإِذَا غَزَا الرَّجُلُ فَذَهَبَتْ نَفَقَتُهُ، أَوْ دَابَّتُهُ فَقَفَلَ ثُمَّ وَجَدَ نَفَقَةً، أَوْ فَادَ دَابَّةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِبِلاَدِ الْعَدُوِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخُرُوجُ وَكَانَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَخَافُ فِي رُجُوعِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَارَقَ بِلاَدَ الْعَدُوِّ فَالِاخْتِيَارُ لَهُ الْعَوْدُ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعُذْرِ فَإِنْ كَانَتْ تَكُونُ خَلَّةٌ بِرُجُوعِهِ، أَوْ كَانُوا جَمَاعَةً أَصَابَهُمْ ذَلِكَ وَكَانَتْ تَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ خَلَّةٌ بِرُجُوعِهِمْ فَعَلَيْهِمْ وَعَلَى الْوَاحِدِ أَنْ يَرْجِعَ إذَا كَانَتْ كَمَا وَصَفْت إلَّا أَنْ يَخَافَ إذَا تَخَلَّفُوا أَنْ يَقْتَطِعُوا فِي الرُّجُوعِ خَوْفًا بَيَّنَّا فَيَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ بِأَنْ لاَ يَرْجِعُوا‏.‏

تَحْوِيلُ حَالِ مَنْ لاَ جِهَادَ عَلَيْهِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ لاَ جِهَادَ عَلَيْهِ بِمَا وَصَفْت مِنْ الْعُذْرِ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ عَلَيْهِ جِهَادٌ فَخَرَجَ فِيهِ فَحَدَثَ لَهُ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ فَرْضِ الْجِهَادِ بِالْعُذْرِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ زَالَتْ الْحَالُ عَنْهُ عَادَ إلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى فَذَهَبَ الْعَمَى وَصَحَّ بَصَرُهُ، أَوْ إحْدَى عَيْنَيْهِ فَيَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الْعَمَى، أَوْ يَكُونَ أَعْرَجَ فَيَنْطَلِقُ الْعَرَجُ، أَوْ مَرِيضًا فَيَذْهَبُ الْمَرَضُ، أَوْ لاَ يَجِدُ ثُمَّ يَصِيرُ وَاحِدًا، أَوْ صَبِيًّا فَبَلَغَ أَوْ مَمْلُوكًا فَيُعْتَقُ، أَوْ خُنْثَى مُشْكِلاً فَيَبِينُ رَجُلاً لاَ يُشْكِلُ، أَوْ كَافِرًا فَيُسْلِمُ فَيَدْخُلُ فِيمَنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ فَإِنْ كَانَ بَلَدُهُ كَانَ كَغَيْرِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ فَإِنْ كَانَ قَدْ غَزَا وَلَهُ عُذْرٌ ثُمَّ ذَهَبَ الْعُذْرُ وَكَانَ مِمَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ الْغَزْوِ دُونَ رُجُوعِ مَنْ غَزَا مَعَهُ أَوْ بَعْضِ الْغُزَاةِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ الرُّجُوعُ‏.‏

قَالَ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُجَمِّرَ بِالْغَزْوِ فَإِنْ جَمَرَهُمْ، فَقَدْ أَسَاءَ وَيَجُوزُ لِكُلِّهِمْ خِلاَفُهُ وَالرُّجُوعُ، وَإِنْ أَطَاعَتْهُ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ فَأَقَامَتْ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الرُّجُوعَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ مُمْتَنِعِينَ بِمَوْضِعِهِمْ لَيْسَ الْخَوْفُ بِشَدِيدٍ أَنْ يَرْجِعَ مَنْ يُرِيدُ الرُّجُوعَ فَيَكُونَ حِينَئِذٍ لِمَنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ أَنْ يَرْجِعَ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ وَالْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَخْلُ بِالْقَلِيلِ وَالْجَمَاعَةُ لاَ تَخْلُ بِالْكَثِيرِ وَلِذِي الْعُذْرِ الرُّجُوعُ فِي كُلِّ حَالٍ إذَا جَمَّرَ وَجَوَّزْته قَدْرَ الْغَزْوِ، وَإِنْ أَخَلَّ بِمَنْ مَعَهُ وَكُلُّ مَنْزِلَةٍ قُلْت لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فَعَلَى الْإِمَامِ فِيهَا أَنْ يَأْذَنَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قُلْت‏:‏ لِبَعْضِهِمْ الرُّجُوعُ وَيُمْنَعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قُلْت‏:‏ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ الرُّجُوعُ‏.‏

شُهُودُ مَنْ لاَ فَرْضَ عَلَيْهِ الْقِتَالَ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَاَلَّذِينَ لاَ يَأْثَمُونَ بِتَرْكِ الْقِتَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَالِ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ أَحْرَارٌ بَالِغُونَ مَعْذُورُونَ بِمَا وَصَفْت وَضَرْبٌ لاَ فَرْضَ عَلَيْهِمْ بِحَالٍ وَهُمْ الْعَبِيدُ، أَوْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ وَالنِّسَاءِ، وَلاَ يَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ الْقِتَالَ الصِّنْفَانِ مَعًا، وَلاَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الصِّنْفَيْنِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ الْقِتَالَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُ‏:‏ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ‏؟‏ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ‏؟‏ فَقَالَ قَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَلَمْ يَكُنْ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ، وَلَكِنْ يَحْذِينَ مِنْ الْغَنِيمَةِ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَمَحْفُوظٌ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ وأحذاهم مِنْ الْغَنِيمَةِ‏.‏

قَالَ وَإِذَا شَهِدَ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ قَوِيًّا كَانَ، أَوْ ضَعِيفًا الْقِتَالَ أُحْذَى مِنْ الْغَنِيمَةِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْذِي النِّسَاءَ وَقِيَاسًا عَلَيْهِنَّ وَخَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ، وَلاَ يَبْلُغُ بِحَذِيَّةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمَ حُرٍّ، وَلاَ قَرِيبًا مِنْهُ وَيُفَضَّلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَذِيَّةِ إنْ كَانَ مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ غِنَاءٌ فِي الْقِتَالِ، أَوْ مَعُونَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ، وَلاَ يَبْلُغُ بِأَكْثَرِهِمْ حَذِيَّةً سَهْمَ مُقَاتِلٍ مِنْ الْأَحْرَارِ‏.‏

وَإِنْ شَهِدَ الْقِتَالَ رَجُلٌ حُرٌّ بَالِغٌ لَهُ عُذْرٌ فِي عَدَمِ شُهُودِ الْقِتَالِ مِنْ زَمَنٍ، أَوْ ضَعْفٌ بِمَرَضٍ، أَوْ عَرَضٍ، أَوْ فَقِيرٍ مَعْذُورٍ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِ رَجُلٍ تَامٍّ فَإِنْ قَالَ‏:‏ مِنْ أَيْنَ ضَرَبْت لِهَؤُلاَءِ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ فَرْضُ الْقِتَالِ، وَلاَ لَهُمْ غَنَاءٌ بِسَهْمٍ، وَلَمْ تَضْرِبْ بِهِ لِلْعَبِيدِ وَلَهُمْ غِنَاءٌ، وَلاَ لِلنِّسَاءِ وَالْمُرَاهِقِينَ، وَإِنْ أَغْنَوْا وَكُلٌّ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقِتَالِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ لَهُ قُلْنَا خَبَرًا وَقِيَاسًا فَأَمَّا الْخَبَرُ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْذَى النِّسَاءَ مِنْ الْغَنَائِمِ» وَكَانَ الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ مِمَّنْ لاَ فَرْضَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ عَلَى الْقِتَالِ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ فَكَانُوا غَيْرَ أَهْلِ جِهَادٍ بِحَالٍ كَمَا يَحُجُّ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ، وَلاَ يُجْزِئُ عَنْهُمَا مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلاَمِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ بِحَالٍ وَيَحُجُّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ الزَّمِنَانِ اللَّذَانِ لَهُمَا الْعُذْرُ بِتَرْكِ الْحَجِّ وَالْفَقِيرَانِ الزَّمِنَانِ فَيُجْزِئُ عَنْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلاَمِ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا زَالَ الْفَرْضُ عَنْهُمَا بِعُذْرٍ فِي أَبْدَانِهِمَا وَأَمْوَالِهِمَا مَتَى فَارَقَهُمَا ذَلِكَ كَانَا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ هَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ فِي الْحَجِّ قَالَ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُونَا كَذَا وَالْمَرْأَةُ مِثْلُهُمَا فِي الْجِهَادِ وَضَرَبْت لِلزَّمِنِ وَالْفَقِيرِ اللَّذَيْنِ لاَ غَزْوَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِمَرْضَى وَجَرْحَى وَقَوْمٍ لاَ غَنَاءَ لَهُمْ عَلَى الشُّهُودِ» وَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَلْ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ إلَّا بِمَعْنَى الْعُذْرِ الَّذِي إذَا زَالَ صَارُوا مِنْ أَهْلِهِ، فَإِذَا تَكَلَّفُوا شُهُودَهُ كَانَ لَهُمْ مَا لِأَهْلِهِ‏.‏

مَنْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَغْزُوَ بِهِ بِحَالٍ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَزَا مَعَهُ بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُ نِفَاقَهُ فَانْخَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْهُ بِثَلَثِمِائَةٍ ثُمَّ شَهِدُوا مَعَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَتَكَلَّمُوا بِمَا حَكَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْلِهِمْ «وَمَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا» ثُمَّ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَشَهِدَهَا مَعَهُ عَدَدٌ فَتَكَلَّمُوا بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِمْ «لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا حَكَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نِفَاقِهِمْ ثُمَّ غَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ فَشَهِدَهَا مَعَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ نَفَرُوا بِهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لِيَقْتُلُوهُ فَوَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَرَّهُمْ وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ مِنْهُمْ فِيمَنْ بِحَضْرَتِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ أَوْ مُنْصَرِفِهِ عَنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَبُوكَ قِتَالٌ مِنْ أَخْبَارِهِمْ فَقَالَ «وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاََعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَأَظْهَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَارَهُمْ وَخَبَّرَ السَّمَّاعِينَ لَهُمْ وَابْتِغَاءَهُمْ أَنْ يَفْتِنُوا مَنْ مَعَهُ بِالْكَذِبِ وَالْإِرْجَافِ وَالتَّخْذِيلِ لَهُمْ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ إذْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ كَانَ فِيهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ عَرَفَ بِمَا عُرِفُوا بِهِ مِنْ أَنْ يَغْزُوَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ ثُمَّ زَادَ فِي تَأْكِيدِ بَيَانِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ» قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى الْخَالِفِينَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَمَنْ شُهِرَ بِمِثْلِ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَحِلَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدَعَهُ يَغْزُو مَعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَوْ غَزَا مَعَهُ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ، وَلاَ يَرْضَخَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ مَنَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَغْزُوَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِطَلَبَتِهِ فِتْنَتَهُمْ وَتَخْذِيلِهِ إيَّاهُمْ وَأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَمِعُ لَهُ بِالْغَفْلَةِ وَالْقَرَابَةِ وَالصَّدَاقَةِ وَأَنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ أَضَرَّ عَلَيْهِمْ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ عَدُوِّهِمْ‏.‏

قَالَ وَلَمَّا نَزَلَ هَذَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيَخْرُجَ بِهِمْ أَبَدًا، وَإِذَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ فَلاَ سَهْمَ لَهُمْ لَوْ شَهِدُوا الْقِتَالَ، وَلاَ رَضْخَ، وَلاَ شَيْءَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ أَنْ يَخْرُجَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ مَا وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَؤُلاَءِ أَوْ بَعْضِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْمَدُ حَالُهُ أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ بِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ لاَ يُطَاعُ وَلاَ يَضُرُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلاَمِ إلَّا مَا مَنَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلاَمِ بَعْدَ الآيَةِ، وَإِنَّمَا مُنِعُوا الْغَزْوَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَعْنَى الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ضَرَرِهِمْ وَصَلاَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمْنَعْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ بِخِلاَفِ صَلاَتِهِ صَلاَةِ غَيْرِهِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكٌ يَغْزُو مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مَعَهُ فِي الْغَزْوِ مَنْ يُطِيعُهُ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ مُشْرِكٍ وَكَانَتْ عَلَيْهِ دَلاَئِلُ الْهَزِيمَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَفْرِيقِ جَمَاعَتِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَغْزُوَ بِهِ، وَإِنْ غَزَا بِهِ لَمْ يَرْضَخْ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَعَ اسْتِتَارِهِمْ بِالْإِسْلاَمِ كَانَ فِي الْمُكْتَشِفِينَ فِي الشِّرْكِ مِثْلُهُ فِيهِمْ، أَوْ أَكْثَرُ إذَا كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ كَأَفْعَالِهِمْ، أَوْ أَكْثَرَ، وَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى خِلاَفِ هَذِهِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِدَلاَلَةٍ عَلَى عَوْرَةِ عَدُوٍّ، أَوْ طَرِيقٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ، أَوْ نَصِيحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُغْزَى بِهِ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لاَ يُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ شَيْئًا وَيَسْتَأْجِرَ إجَارَةً مِنْ مَالٍ لاَ مَالِكَ لَهُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ غَيْرُ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا» قِيلَ نُعَيْمٌ فَأَسْلَمَ وَلَعَلَّهُ رَدَّهُ رَجَاءَ إسْلاَمِهِ وَذَلِكَ وَاسِعٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّ الْمُشْرِكَ فَيَمْنَعُهُ الْغَزْوَ وَيَأْذَنَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الضَّعِيفُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ‏.‏ وَيَأْذَنَ لَهُ وَرَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ إبَاحَةِ الرَّدِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ غَزَا بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ وَشَهِدَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ مَعَهُ حُنَيْنًا بَعْدَ الْفَتْحِ وَصَفْوَانُ مُشْرِكٌ‏.‏

قَالَ وَنِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا وَصِبْيَانِهِمْ كَرِجَالِهِمْ لاَ يَحْرُمُ أَنْ يَشْهَدُوا الْقِتَالَ وَأَحَبُّ إلَيَّ لَوْ لَمْ يُعْطُوا، وَإِنْ شَهِدُوا الْقِتَالَ فَلاَ يُبَيِّنُ أَنْ يَرْضَخَ لَهُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَرْضَخَ لَهُمْ بِشَيْءٍ لَيْسَ كَمَا يَرْضَخُ لِعَبْدٍ مُسْلِمٍ أَوْ لِامْرَأَةٍ، وَلاَ صَبِيٍّ مُسْلِمَيْنِ وَأَحَبُّ إلَيَّ لَوْ لَمْ يَشْهَدُوا الْحَرْبَ إنْ لَمْ تَكُنْ بِهِمْ مَنْفَعَةٌ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَجَزْنَا شُهُودَ النِّسَاءِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالصِّبْيَانَ فِي الْحَرْبِ رَجَاءَ النُّصْرَةِ بِهِمْ لَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمُشْرِكِينَ‏.‏

كَيْفَ تُفَضِّلُ فَرْضَ الْجِهَادِ

أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ‏:‏ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ‏}‏ مَعَ مَا أَوْجَبَ مِنْ الْقِتَالِ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَدْ وَصَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ غَيْرُ ذَوِي الْعُذْرِ بِدَلاَئِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِذَا كَانَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ مُحْتَمِلاً لاََنْ يَكُونَ كَفَرْضِ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا عَامًّا وَمُحْتَمِلاً لاََنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ الْعُمُومِ فَدَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ إنَّمَا هُوَ عَلَى أَنْ يَقُومَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ لِلْقِيَامِ بِهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ الْمَخُوفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَمْنَعُهُ، وَالْآخَرُ أَنْ يُجَاهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ فِي جِهَادِهِ كِفَايَةٌ حَتَّى يُسْلِمَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، أَوْ يُعْطِيَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ قُلْ، فَإِذَا قَامَ بِهَذَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ فِيهِ الْكِفَايَةُ بِهِ خَرَجَ الْمُتَخَلِّفُ مِنْهُمْ مِنْ الْمَأْثَمِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ وَكَانَ الْفَضْلُ لِلَّذِينَ وَلَوْا الْجِهَادَ عَلَى الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً‏}‏ الآيَةَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَبَيَّنَ إذْ وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَاعِدِينَ غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ الْحُسْنَى أَنَّهُمْ لاَ يَأْثَمُونَ بِالتَّخَلُّفِ وَيُوعَدُونَ الْحُسْنَى بِالتَّخَلُّفِ بَلْ وَعَدَهُمْ لَمَّا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ مِنْ التَّخَلُّفِ الْحُسْنَى إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَتَخَلَّفُوا شَكًّا، وَلاَ سُوءَ نِيَّةٍ، وَإِنْ تَرَكُوا الْفَضْلَ فِي الْغَزْوِ وَأَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ فِي النَّفِيرِ حِينَ أُمِرْنَا بِالنَّفِيرِ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً‏}‏ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏إلَّا تَنْفِرُوا يَعْذِبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ‏}‏ الآيَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَلَمْ يَغْزُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَاةً عَلِمْتهَا إلَّا تَخَلَّفَ عَنْهُ فِيهَا بَشَرٌ فَغَزَا بَدْرًا وَتَخَلَّفَ عَنْهُ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ، وَكَذَلِكَ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَامَ الْفَتْحِ وَغَيْرَهُ مِنْ غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَفِي تَجَهُّزِهِ لِلْجَمْعِ لِلرُّومِ «لِيَخْرُجَ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ فَيَخْلُفُ الْبَاقِي الْغَازِيَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُيُوشًا وَسَرَايَا تَخَلَّفَ عَنْهَا بِنَفْسِهِ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الْجِهَادِ عَلَى مَا ذَكَرْت‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَأَبَانَ أَنْ لَوْ تَخَلَّفُوا مَعًا أَثِمُوا مَعًا بِالتَّخَلُّفِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، إلَّا إنْ تَرَكْتُمْ النَّفِيرَ كُلُّكُمْ عَذَّبْتُكُمْ قَالَ فَفَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى مَا وَصَفْت يُخْرِجُ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنْ الْمَأْثَمِ بِالْكِفَايَةِ فِيهِ، وَيَأْثَمُونَ مَعًا إذَا تَخَلَّفُوا مَعًا‏.‏

تَفْرِيعُ فَرْضِ الْجِهَادِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَفَرَضَ اللَّهُ جِهَادَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أَبَانَ مَنْ الَّذِينَ نَبْدَأُ بِجِهَادِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ الَّذِينَ يَلُونَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مَعْقُولاً فِي فَرْضِ اللَّهِ جِهَادُهُمْ أَنَّ أَوْلاَهُمْ بِأَنْ يُجَاهِدَ أَقْرَبُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ دَارًا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا قَوُوا عَلَى جِهَادِهِمْ وَجِهَادِ غَيْرِهِمْ كَانُوا عَلَى جِهَادِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ أَقْوَى وَكَانَ مَنْ قَرُبَ أَوْلَى أَنْ يُجَاهِدَ مِنْ قُرْبِهِ مِنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ نِكَايَةَ مَنْ قَرُبَ أَكْثَرُ مِنْ نِكَايَةِ مَنْ بَعُدَ قَالَ‏:‏ فَيَجِبُ عَلَى الْخَلِيفَةِ إذَا اسْتَوَتْ حَالُ الْعَدُوِّ، أَوْ كَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ أَنْ يَبْدَأَ بِأَقْرَبِ الْعَدُوِّ مِنْ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَلاَ يَتَنَاوَلُ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدُوٍّ دُونَهُ حَتَّى يَحْكُمَ أَمْرَ الْعَدُوِّ دُونَهُ بِأَنْ يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأُحِبُّ لَهُ إنْ لَمْ يُرِدْ تَنَاوُلَ عَدُوٍّ وَرَاءَهُمْ، وَلَمْ يُطِلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَدُوٌّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَقْرَبِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِاسْمِ الَّذِينَ يَلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ يَلِي طَائِفَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ أُحِبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ طَائِفَةٍ تَلِي قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ آخَرِينَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ مِنْهُمْ مِنْ الْأُخْرَى إلَى قَوْمٍ غَيْرِهِمْ‏.‏

فَإِنْ اخْتَلَفَ حَالُ الْعَدُوِّ فَكَانَ بَعْضُهُمْ أَنْكَى مِنْ بَعْضٍ، أَوْ أَخْوَفَ مِنْ بَعْضٍ فَلْيَبْدَأْ الْإِمَامُ بِالْعَدُوِّ الْأَخْوَفِ، أَوْ الأنكى وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَفْعَلَ، وَإِنْ كَانَتْ دَارُهُ أَبْعَدَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى مَا يَخَافُ مِمَّنْ بَدَأَ بِهِ مِمَّا لاَ يَخَافُ مِنْ غَيْرِهِ مِثْلَهُ وَتَكُونُ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الضَّرُورَةِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ «بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ أَنَّهُ يَجْمَعُ لَهُ فَأَغَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرْبُهُ عَدُوٌّ أَقْرَبُ مِنْهُ وَبَلَغَهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ شُحٍّ يَجْمَعُ لَهُ فَأَرْسَلَ ابْنَ أُنَيْسٍ فَقَتَلَهُ وَقُرْبُهُ عَدُوٌّ أَقْرَبُ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ لاَ يَتَبَايَنُ فِيهَا حَالُ الْعَدُوِّ كَمَا وَصَفْت وَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ سَدُّ أَطْرَافِ الْمُسْلِمِينَ بِالرِّجَالِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ وَكُلِّ أَمْرٍ دَفَعَ الْعَدُوَّ قَبْلَ انْتِيَابِ الْعَدُوِّ فِي دِيَارِهِمْ حَتَّى لاَ يَبْقَى لِلْمُسْلِمِينَ طَرَفٌ إلَّا، وَفِيهِ مَنْ يَقُومُ بِحَرْبِ مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَكْثَرَ فَعَلَ وَيَكُونُ الْقَائِمُ بِوِلاَيَتِهِمْ أَهْلَ الْأَمَانَةِ وَالْعَقْلِ وَالنَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْعِلْمِ بِالْحَرْبِ وَالنَّجْدَةِ وَالْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ وَالْإِقْدَامِ فِي مَوْضِعِهِ وَقِلَّةِ الْبَطْشِ وَالْعَجَلَةِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَإِذَا أَحْكَمَ هَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَ الْمُسْلِمِينَ بِلاَدَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لاَ يُغَرَّرُ بِالْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَيَرْجُو أَنْ يَنَالَ الظَّفَرَ مِنْ الْعَدُوِّ فَإِنْ كَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ لَمْ أَرَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ عَامٌ إلَّا وَلَهُ جَيْشٌ أَوْ غَارَةٌ فِي بِلاَدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَلُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ فِي السَّنَةِ بِلاَ تَغْرِيرٍ بِالْمُسْلِمِينَ أَحْبَبْت لَهُ أَنْ لاَ يَدَعَ ذَلِكَ كُلَّمَا أَمْكَنَهُ وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيْهِ عَامٌ إلَّا وَلَهُ فِيهِ غَزْوٌ حَتَّى لاَ يَكُونَ الْجِهَادُ مُعَطَّلاً فِي عَامٍ إلَّا مِنْ عُذْرٍ،، وَإِذَا غَزَا عَامًا قَابِلاً غَزَا بَلَدًا غَيْرَهُ، وَلاَ يَتَأَتَّى الْغَزْوُ عَلَى بَلَدٍ وَيُعَطَّلُ مِنْ بِلاَدِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرُهُ إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ حَالُ أَهْلِ الْبُلْدَانِ فَيُتَابِعُ الْغَزْوَ عَلَى مَنْ يَخَافُ نِكَايَتَهُ، أَوْ مَنْ يَرْجُو غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بِلاَدِهِ فَيَكُونُ تَتَابُعُهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَطَّلَ غَيْرَهُ بِمَعْنَى لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِثْلُهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا قُلْت بِمَا وَصَفْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْلُ مِنْ حِينِ فَرَضَ عَلَيْهِ الْجِهَادَ مِنْ أَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ فِي عَامٍ مِنْ غَزْوَةٍ، أَوْ غَزْوَتَيْنِ، أَوْ سَرَايَا، وَقَدْ كَانَ يَأْتِي عَلَيْهِ الْوَقْتُ لاَ يَغْزُو فِيهِ، وَلاَ يُسْرِي سَرِيَّةً، وَقَدْ يُمْكِنُهُ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَجِمُّ وَيُجَمُّ لَهُ وَيَدْعُو وَيُظَاهِرُ الْحُجَجُ عَلَى مَنْ دَعَاهُ‏.‏

وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِمَامِ أَنْ يَغْزُوا أَهْلَ الْفَيْءِ يَغْزُوا كُلُّ قَوْمٍ إلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَلاَ يُكَلَّفُ الرَّجُلُ الْبِلاَدَ الْبَعِيدَةَ وَلَهُ مُجَاهِدٌ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ حَالُ الْمُجَاهِدِينَ فَيَزِيدَ عَنْ الْقَرِيبِ عَنْ أَنْ يَكْفِيَهُمْ فَإِنْ عَجَزَ الْقَرِيبُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ كَلَّفَهُمْ أَقْرَبَ أَهْلِ الْفَيْءِ بِهِمْ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَغْزُوَ أَهْلُ دَارٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً حَتَّى يَخْلُفَ فِي دِيَارِهِمْ مَنْ يَمْنَعُ دَارَهُمْ مِنْهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَإِذَا كَانَ أَهْلُ دَارِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلاً إنْ غَزَا بَعْضُهُمْ خِيفَ الْعَدُوُّ عَلَى الْبَاقِينَ مِنْهُمْ لَمْ يَغْزُ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَكَانَ هَؤُلاَءِ فِي رِبَاطِ الْجِهَادِ وَنُزُلِهِمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَإِنْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةً غَيْرَ مَخُوفٍ عَلَيْهَا مِمَّنْ يُقَارِبُهَا فَأَكْثَرُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُغْزَى مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلاً فَيَخْلُفُ الْمُقِيمُ الظَّاعِنَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَجَهَّزَ إلَى تَبُوكَ فَأَرَادَ الرُّومَ وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُمْ، قَالَ‏:‏ لِيَخْرُجَ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ» وَمَنْ فِي الْمَدِينَةِ مُمْتَنِعٌ بِأَقَلَّ مِمَّنْ تَخَلَّفَ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ فِي سَاحِلٍ مِنْ السَّوَاحِلِ كَسَوَاحِلِ الشَّامِ وَكَانُوا عَلَى قِتَالِ الرُّومِ وَالْعَدُوُّ الَّذِي يَلِيهِمْ أَقْوَى مِمَّنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَلَدِهِمْ وَكَانَ جِهَادُهُمْ عَلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَغْزُوا إلَيْهِمْ مَنْ يُقِيمُ فِي ثُغُورِهِمْ مَعَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ خُلِّفُوا مِنْهُمْ يَمْنَعُونَ دَارَهُمْ لَوْ انْفَرَدُوا إذَا صَارُوا يَمْنَعُونَ دَارَهُمْ بِمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ وَيَدْخُلُونَ بِلاَدَ الْعَدُوِّ فَيَكُونُ عَدُوُّهُمْ أَقْرَبَ وَدَوَابُّهُمْ أَجَمَّ وَهُمْ بِبِلاَدِهِمْ أَعْلَمُ وَتَكُونُ دَارُهُمْ غَيْرَ ضَائِعَةٍ بِمَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ وَخَلَفَ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُوَلِّيَ الْإِمَامُ الْغَزْوَ إلَّا ثِقَةً فِي دِينِهِ شُجَاعًا فِي بَدَنِهِ حَسَنَ الْأَنَاةِ عَاقِلاً لِلْحَرْبِ بَصِيرًا بِهَا غَيْرَ عَجِلٍ، وَلاَ نَزِقٍ وَأَنْ يَقْدَمَ إلَيْهِ وَإِلَى مَنْ وَلَّاهُ أَنْ لاَ يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَهْلَكَةٍ بِحَالٍ، وَلاَ يَأْمُرَهُمْ بِنَقْبِ حِصْنٍ يَخَافُ أَنْ يَشْدَخُوا تَحْتَهُ، وَلاَ دُخُولَ مَطْمُورَةٍ يَخَافُ أَنْ يُقْتَلُوا، وَلاَ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فِيهَا، وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْباب الْمَهَالِكِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ، فَقَدْ أَسَاءَ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلاَ عَقْلَ، وَلاَ قَوَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ إنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِطَاعَتِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَكَذَلِكَ لاَ يَأْمُرُ الْقَلِيلَ مِنْهُمْ بِانْتِيَابِ الْكَثِيرِ حَيْثُ لاَ غَوْثَ لَهُمْ، وَلاَ يَحْمِلُ مِنْهُمْ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ فَرْضِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنْ يُقَاتِلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَيْنِ لاَ يُجَاوِزُ ذَلِكَ، وَإِذَا حَمَلَهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ حَمْلُهُمْ عَلَيْهِ فَلَهُمْ أَنْ لاَ يَفْعَلُوهُ قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا قُلْت لاَ عَقْلَ، وَلاَ قَوَدَ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَنَّهُ جِهَادٌ وَيَحِلُّ لَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَقْدَمُوا فِيهِ عَلَى مَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ بِغَرَضِ الْقَتْلِ لِرَجَاءِ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، أَلاَ تَرَى أَنِّي لاَ أَرَى ضِيقًا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الْجَمَاعَةِ حَاسِرًا، أَوْ يُبَادِرَ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ مَقْتُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بُودِرَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حَاسِرًا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بَعْدَ إعْلاَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرِ فَقُتِلَ‏.‏

تَحْرِيمُ الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ

قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ الْآيَةُ‏.‏

أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ ‏{‏إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ فَكَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ الْعِشْرُونَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ فَخَفَّفَ عَنْهُمْ وَكَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَهَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَغْنًى فِيهِ بِالتَّنْزِيلِ عَنْ التَّأْوِيلِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ‏}‏ الآيَةَ، فَإِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ أَوْ غُزُوا فَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ فَلَقُوا ضِعْفَهُمْ مِنْ الْعَدُوِّ حَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا عَنْهُمْ إلَّا مُتَحَرِّفِينَ إلَى فِئَةٍ فَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا عَنْهُمْ، وَلاَ يَسْتَوْجِبُ السُّخْطَ عِنْدِي مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَعَلاَ لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ إلَى غَيْرِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ وَالتَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا يُوجِبُ سُخْطَهُ عَلَى مَنْ تَرَكَ فَرْضَهُ وَأَنَّ فَرْضَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجِهَادِ إنَّمَا هُوَ عَلَى أَنْ يُجَاهِدَ الْمُسْلِمُونَ ضِعْفَهُمْ مِنْ الْعَدُوِّ، وَيَأْثَمُ الْمُسْلِمُونَ لَوْ أَطَلَّ عَدُوٌّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْخُرُوجِ إلَيْهِ بِلاَ تَضْيِيعٍ لِمَا خَلْفَهُمْ مِنْ ثَغْرِهِمْ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ ضِعْفَهُمْ وَأَقَلَّ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِذَا لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ الْعَدُوَّ فَكَثَرَهُمْ الْعَدُوُّ أَوْ قَوُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكْثُرُوهُمْ بِمَكِيدَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ رَجَوْت أَنْ لاَ يَأْثَمُوا، وَلاَ يَخْرُجُونَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْ الْمَأْثَمِ إلَّا بِأَنْ لاَ يُوَلُّوا الْعَدُوَّ دُبُرًا إلَّا وَهُمْ يَنْوُونَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ التَّحَرُّفِ إلَى الْقِتَالِ أَوْ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ فَإِنْ وَلَّوْا عَلَى غَيْرِ نِيَّةِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ خَشِيت أَنْ يَأْثَمُوا وَأَنْ يُحْدِثُوا بَعْدُ نِيَّةَ خَيْرٍ لَهُمْ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا مِنْهُمْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ خَيْرٍ بِلاَ كَفَّارَةٍ مَعْلُومَةٍ فِيهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَوْ وَلَّوْا يُرِيدُونَ التَّحَرُّفَ لِلْقِتَالِ أَوْ التَّحَيُّزَ إلَى الْفِئَةِ ثُمَّ أَحْدَثُوا بَعْدُ نِيَّةً فِي الْمُقَامِ عَلَى الْفِرَارِ بِلاَ وَاحِدَةٍ مِنْ النِّيَّتَيْنِ كَانُوا غَيْرَ آثِمِينَ بِالتَّوْلِيَةِ مَعَ النِّيَّةِ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَخِفْت أَنْ يَأْثَمُوا بِالنِّيَّةِ الْحَادِثَةِ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى الْفِرَارِ لاَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ بَعْضُ أَهْلِ الْفَيْءِ نَوَى أَنْ يُجَاهِدَ عَدُوًّا بِلاَ عُذْرٍ خِفْت عَلَيْهِ الْمَأْثَمَ، وَلَوْ نَوَى الْمُجَاهِدُ أَنْ يَفِرَّ عَنْهُ لاَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ خَوْفِي عَلَيْهِ مِنْ الْمَأْثَمِ أَعْظَمَ، وَلَوْ شَهِدَ الْقِتَالَ مَنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى الْأَحْرَارِ خِفْت أَنْ يَضِيقَ عَلَى أَهْلِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا عُذِرُوا بِتَرْكِهِ، فَإِذَا تَكَلَّفُوهُ فَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ كَمَا يُعْذَرُ الْفَقِيرُ الزَّمِنُ بِتَرْكِ الْحَجِّ، فَإِذَا حَجَّ لَزِمَهُ فِيهِ مَا لَزِمَ مَنْ لاَ يُعْذَرُ بِتَرْكِهِ مِنْ عَمَلٍ وَمَأْثَمٍ وَفِدْيَةٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِنْ شَهِدَ الْقِتَالَ عَبْدٌ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ كَانَ كَالْأَحْرَارِ مَا كَانَ فِي إذْنِ سَيِّدِهِ يَضِيقُ عَلَيْهِ التَّوْلِيَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَمَّيْت مِنْ أَهْلِ الْفَرَائِضِ الَّذِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ الْمَأْثَمُ وَيَصْلُحُونَ لِلْقِتَالِ قَالَ‏:‏ وَلَوْ شَهِدَ الْقِتَالَ عَبْدٌ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَأْثَمْ بِالْفِرَارِ عَلَى غَيْرِ نِيَّةِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْقِتَالُ، وَلَوْ شَهِدَ الْقِتَالَ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ بِلاَ سُكْرٍ لَمْ يَأْثَمْ بِأَنْ يُوَلِّيَ، وَلَوْ شَهِدَهُ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ بِسُكْرٍ مِنْ خَمْرٍ فَوَلَّى كَانَ كَتَوْلِيَةِ الصَّحِيحِ الْمُطِيقِ لِلْقِتَالِ، وَلَوْ شَهِدَ الْقِتَالَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَمْ يَأْثَمْ بِالتَّوْلِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَكْمُلْ الْفَرَائِضُ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَهِدَ النِّسَاءُ الْقِتَالَ فَوَلَّيْنَ رَجَوْت أَنْ لاَ يَأْثَمْنَ بِالتَّوْلِيَةِ؛ لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُنَّ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ الْقِتَالَ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً، وَلَمْ تُقْسَمْ حَتَّى وَلَّتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، فَإِنْ قَالُوا وَلَّيْنَا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ كَانَتْ لَهُمْ سُهْمَانُهُمْ فِيمَا غُنِمَ بَعْدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ، وَلاَ رِدْءًا، وَلَوْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً ثُمَّ لَمْ تُقْسَمْ خُمِّسَتْ، أَوْ لَمْ تُخَمَّسْ حَتَّى وَلَّوْا وَأَقَرُّوا أَنَّهُمْ وَلَّوْا بِغَيْرِ نِيَّةِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ أَحْدَثُوا نِيَّةَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَالرَّجْعَةَ وَرَجَعُوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَنِيمَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ إلَيْهِمْ حَتَّى صَارُوا مِمَّنْ عَصَى بِالْفِرَارِ وَتَرَكَ الدَّفْعَ عَنْهَا وَكَانُوا آثِمِينَ بِالتَّرْكِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا وَلَّى الْقَوْمُ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ إلَى فِئَةٍ ثُمَّ غَزَوْا غَزَاةً أُخْرَى وَعَادُوا إلَى تَرْكِ الْغَزَاةِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ غَنِيمَةٍ شَهِدُوهَا، وَلَمْ يُوَلُّوا بَعْدَهَا فَلَهُمْ حَقُّهُمْ مِنْهَا، وَإِذَا رَجَعَ الْقَوْمُ الْقَهْقَرَى بِلاَ نِيَّةٍ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَانُوا كَالْمُوَلِّينَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ بِالتَّحْرِيمِ الْهَزِيمَةُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ‏.‏

وَإِذَا غَزَا الْقَوْمُ فَذَهَبَتْ دَوَابُّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُذْرٌ بِأَنْ يُوَلُّوا، وَإِنْ ذَهَبَ السِّلاَحُ وَالدَّوَابُّ وَكَانُوا يَجِدُونَ شَيْئًا يَدْفَعُونَ بِهِ مِنْ حِجَارَةٍ، أَوْ خَشَبٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَجِدُوا مِنْ هَذَا شَيْئًا فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُوَلُّوا فَإِنْ فَعَلُوا أَحْبَبْت أَنْ يَجْمَعُوا مَعَ الْفِعْلِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ، وَلاَ يُبَيِّنُ أَنْ يَأْثَمُوا؛ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى شَيْءٍ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأُحِبُّ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنْ لاَ يُوَلِّيَ أَحَدٌ بِحَالٍ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ‏.‏

وَلَوْ غَزَا الْمُشْرِكُونَ بِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ تَوْلِيَةُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ كَتَوْلِيَتِهِمْ لَوْ غَزَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ إذَا كَانُوا نَازِلِينَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَبْرُزُوا إلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلاَ يَضِيقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَحَصَّنُوا مِنْ الْعَدُوِّ فِي بِلاَدِ الْعَدُوِّ وَبِلاَدِ الْإِسْلاَمِ، وَإِنْ كَانُوا قَاهِرِينَ لِلْعَدُوِّ فِيمَا يَرَوْنَ إذَا ظَنُّوا ذَلِكَ أَزْيَدَ فِي قُوَّتِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ الْعَدُوُّ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا فِي تَحَصُّنِهِمْ عَنْهُمْ، فَإِذَا كَانَ وَاحِدٌ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ضَاقَ عَلَيْهِمْ إنْ أَمْكَنَهُمْ الْخُرُوجُ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُمْ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعَدُوُّ قَاهِرِينَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَحَصَّنُوا إلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ مَدَدٌ أَوْ تَحْدُثُ لَهُمْ قُوَّةٌ، وَإِنْ وَنَى عَلَيْهِمْ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُوَلُّوا عَنْ الْعَدُوِّ مَا لَمْ يَلْتَقُوا هُمْ وَالْعَدُوُّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ فِي التَّوْلِيَةِ بَعْدَ اللِّقَاءِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله‏:‏ وَالتَّحَرُّفُ لِلْقِتَالِ الِاسْتِطْرَادُ إلَى أَنْ يُمْكِنَ الْمُسْتَطْرِدُ الْكَرَّةَ فِي أَيِّ حَالٍ مَا كَانَ الْإِمْكَانُ وَالتَّحَيُّزُ إلَى الْفِئَةِ أَيْنَ كَانَتْ الْفِئَةُ بِبِلاَدِ الْعَدُوِّ، أَوْ بِبِلاَدِ الْإِسْلاَمِ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إنَّمَا يَأْثَمُ فِي التَّوْلِيَةِ مَنْ لَمْ يَنْوِ وَاحِدًا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَأَتَيْنَا الْمَدِينَةَ وَفَتَحْنَا بَابَهَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ‏:‏ نَحْنُ الْفَرَّارُونَ قَالَ‏:‏ أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ» أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ‏.‏

فِي إظْهَارِ دِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَدْيَانِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرُ بَعْدَهُ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ «لَمَّا أُتِيَ كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزَّقَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَزَّقُ مُلْكُهُ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَحَفِظْنَا أَنَّ «قَيْصَرَ أَكْرَمَ كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَهُ فِي مِسْكٍ فَقَالَ‏:‏ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثْبُتُ مُلْكُهُ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَوَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَتْحَ فَارِسَ وَالشَّامِ فَأَغْزَى أَبُو بَكْرٍ الشَّامَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ فَتْحِهَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَتَحَ بَعْضَهَا وَتَمَّ فَتْحُهَا فِي زَمَانِ عُمَرَ وَفَتَحَ الْعِرَاقَ وَفَارِسَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دِينَهُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَدْيَانِ بِأَنْ أَبَانَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَهُ مِنْ الْأَدْيَانِ بَاطِلٌ وَأَظْهَرَهُ بِأَنَّ جِمَاعَ الشِّرْكِ دِينَانِ دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَدِينُ الْأُمِّيِّينَ فَقَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمِّيِّينَ حَتَّى دَانُوا بِالْإِسْلاَمِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَبَى حَتَّى دَانَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلاَمِ وَأَعْطَى بَعْضٌ الْجِزْيَةَ صَاغِرِينَ وَجَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا ظُهُورُ الدِّينِ كُلِّهِ قَالَ‏:‏ وَقَدْ يُقَالُ لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دِينَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ حَتَّى لاَ يُدَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا بِهِ وَذَلِكَ مَتَى شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْتَابُ الشَّامَ انْتِيَابًا كَثِيرًا مَعَ مَعَايِشِهَا مِنْهُ وَتَأْتِي الْعِرَاقُ، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا دَخَلَتْ فِي الْإِسْلاَمِ ذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفَهَا مِنْ انْقِطَاعِ تَعَايُشِهَا بِالتِّجَارَةِ مِنْ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ إذَا فَارَقَتْ الْكُفْرَ وَدَخَلَتْ فِي الْإِسْلاَمِ مَعَ خِلاَفِ مِلْكِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ لِأَهْلِ الْإِسْلاَمِ فَقَالَ‏:‏ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَلَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ كِسْرَى بَعْدَهُ ثَبَتَ لَهُ أَمْرٌ بَعْدَهُ، قَالَ‏:‏ «وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ» فَلَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الشَّامِ قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَأَجَابَهُمْ عَلَى مَا قَالُوا لَهُ وَكَانَ كَمَا قَالَ‏:‏ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَطَعَ اللَّهُ الْأَكَاسِرَةَ عَنْ الْعِرَاقِ وَفَارِسَ وَقَيْصَرَ وَمَنْ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ عَنْ الشَّامِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ «قَالَ‏:‏ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِسْرَى يُمَزَّقُ مُلْكُهُ» فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَكَاسِرَةِ مِلْكٌ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ «وَقَالَ‏:‏ فِي قَيْصَرَ يَثْبُتُ مُلْكُهُ» فَثَبَتَ لَهُ مُلْكٌ بِبِلاَدِ الرُّومِ إلَى الْيَوْمِ وَتَنَحَّى مُلْكُهُ عَنْ الشَّامِ وَكُلُّ هَذَا أَمْرٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا‏.‏

الْأَصْلُ فِيمَنْ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْهُ وَمَنْ لاَ تُؤْخَذُ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَهِيَ بِلاَدُ قَوْمِهِ وَقَوْمُهُ أُمِّيُّونَ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ حَوْلَهُمْ مِنْ بِلاَدِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ الْعَجَمِ إلَّا مَمْلُوكٌ، أَوْ أَجِيرٌ، أَوْ مُجْتَازٌ، أَوْ مَنْ لاَ يُذْكَرُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ‏}‏ الْآيَةُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ فِي أَوَّلِ مَا بُعِثَ أَعْدَى لَهُ مِنْ عَوَامِّ قَوْمِهِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ جِهَادَهُمْ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ فَقِيلَ‏:‏ فِيهِ فِتْنَةُ شِرْكٍ وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ وَاحِدًا لِلَّهِ وَقَالَ فِي قَوْمٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ‏}‏ الآيَةَ‏.‏ مَعَ نَظَائِرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ‏.‏

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «لاَ أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»‏.‏

أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ مساحق عَنْ أَبِي عِصَامٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ‏:‏ إنْ رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا، أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا فَلاَ تَقْتُلُوا أَحَدًا»‏.‏

أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» قَالَ‏:‏ أَبُو بَكْرٍ هَذَا مِنْ حَقِّهَا لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ يَعْنِي مَنْ مَنَعَ الصَّدَقَةَ، وَلَمْ يَرْتَدَّ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ‏:‏ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا الْقَوْلَ أَوْ مَا مَعْنَاهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَهَذَا مِثْلُ الْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ مُشْرِكُو أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ قُرْبِهِ أَحَدٌ مِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ تَكُنْ أَنْصَارٌ اجْتَمَعَتْ أَوَّلَ مَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسْلاَمًا فَوَادَعَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَخْرُجْ إلَى شَيْءٍ مِنْ عَدَاوَتِهِ بِقَوْلٍ يَظْهَرُ، وَلاَ فِعْلٍ حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ فَكَلَّمَ بَعْضُهَا بَعْضًا بِعَدَاوَتِهِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْحِجَازِ عَلِمْته إلَّا يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِنَجْرَانَ وَكَانَتْ الْمَجُوسُ بِهَجَرَ وَبِلاَدِ الْبَرْبَرِ وَفَارِسَ نَائِينَ عَنْ الْحِجَازِ دُونَهُمْ مُشْرِكُونَ أَهْلُ أَوْثَانٍ كَثِيرٌ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ فَرْضَ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ الآيَةَ‏.‏

فَفَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا شَاءَ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ بَيْنَ قِتَالِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَفَرَضَ أَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يُسْلِمُوا وَقَتْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفَرَضَ أَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، أَوْ أَنْ يُسْلِمُوا وَفَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ قِتَالِهِمْ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ قَالَ‏:‏ إذَا لَقِيت عَدُوًّا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ، أَوْ ثَلاَثِ خِلاَلٍ شَكَّ عَلْقَمَةُ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ اخْتَارُوا الْمُقَامَ فِي دَارِهِمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوك إلَى الْإِسْلاَمِ فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَدَعْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ حَدَّثَنِي عَدَدٌ كُلُّهُمْ ثِقَةٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ ثِقَةٌ لاَ أَعْلَمُ إلَّا أَنَّ فِيهِمْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ عَلْقَمَةَ بِمِثْلِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ لاَ يُخَالِفُهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَهَذَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً دُونَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَلَيْسَ يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إلَهَ إلَّا اللَّهُ»، وَلَكِنَّ أُولَئِكَ النَّاسَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَاَلَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَصَفْت مِنْ فَرْقِ اللَّهِ بَيْنَ الْقِتَالَيْنِ، وَلاَ يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ وَيُقْتَلُوا حَيْثُ وُجِدُوا حَتَّى يَتُوبُوا وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَلاَ تُنْسَخُ وَاحِدَةٌ مِنْ الْآيِ غَيْرَهَا، وَلاَ وَاحِدَ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرَهُ وَكُلٌّ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ سَنَّ رَسُولُهُ فِيهِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَلَوْ جَهِلَ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ إنَّ أَمْرَ اللَّهِ بِالْجِزْيَةِ نَسَخَ أَمْرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُسْلِمُوا جَازَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ جَاهِلٌ مِثْلُهُ بَلْ الْجِزْيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِمَا نَاسِخٌ لِصَاحِبِهِ، وَلاَ مُخَالِفٌ‏.‏

مَنْ يُلْحَقُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ انْتَوَتْ قَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُنَزِّلَ عَلَيْهِ الْفُرْقَانَ فَدَانَتْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَارَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَدَانَ بَعْضُهُمْ دِينَهُمْ وَكَانَ مَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرْضَ قِتَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ حَتَّى يُسْلِمَ مُخَالِفًا دِينَ مَنْ وَصَفْته دَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمَسُّكِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ بِدِينِ آبَائِهِمْ «فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ أُكَيْدِرَ دُومَةَ»، وَهُوَ رَجُلٌ يُقَالُ مِنْ غَسَّانَ أَوْ مِنْ كِنْدَةَ «وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ ذِمَّةِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَعَامَّتِهِمْ عَرَبٌ وَمِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَفِيهِمْ عَرَبٌ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْت مِنْ أَنَّ الْإِسْلاَمَ لَمْ يَكُنْ وَهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ بَلْ دَائِنِينَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ مُخَالِفِينَ دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ عَلَى النَّسَبِ إنَّمَا هِيَ عَلَى الدِّينِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَهْلُ التَّوْرَاةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ النَّصَارَى وَكَانُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَحَطْنَا بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ كُتُبًا غَيْرَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ فَأَخْبَرَ أَنَّ لِإِبْرَاهِيمَ صُحُفًا وَقَالَ‏:‏ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَكَانَتْ الْمَجُوسُ يَدِينُونَ غَيْرَ دِينِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَيُخَالِفُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي بَعْضِ دِينِهِمْ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ دِينِهِمْ وَكَانَ الْمَجُوسُ بِطَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ لاَ يَعْرِفُ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ دِينِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ دِينِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ حَتَّى عَرَفُوهُ وَكَانُوا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَهْلَ كِتَابٍ يَجْمَعُهُمْ اسْمٌ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى‏.‏

أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعْدٍ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ قَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ عَلاَمَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْمَجُوسِ وَلَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابِ‏؟‏ فَقَامَ إلَيْهِ الْمُسْتَوْرِدُ فَأَخَذَ بِلُبِّهِ وَقَالَ‏:‏ يَا عَدُوَّ اللَّهِ تَطْعَنُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عَلِيًّا، وَقَدْ أَخَذُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ فَذَهَبَ بِهِ إلَى الْقَصْرِ فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَيْهِمَا فَقَالَ‏:‏ أَلْبِدَا فَجَلَسَا فِي ظِلِّ الْقَصْرِ فَقَالَ‏:‏ عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يَعْلَمُونَهُ وَكِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ، وَإِنَّمَا مَلِكُهُمْ سَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، أَوْ أُخْتِهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ فَلَمَّا صَحَا خَافَ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ فَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ فَلَمَّا أَتَوْهُ قَالَ‏:‏ تَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ‏؟‏ وَقَدْ كَانَ آدَم يَنْكِحُ بَنِيهِ بَنَاتَه وَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ مَا يَرْغَبُ بِكُمْ عَنْ دِينِهِ‏؟‏ فَتَابَعُوهُ وَقَاتَلُوا الَّذِينَ خَالَفُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُمْ فَأَصْبَحُوا، وَقَدْ أَسْرَى عَلَى كِتَابِهِمْ فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَذَهَبَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا وَصَفْت أَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ كِتَابٍ وَدَلِيلٌ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مَا خَبَّرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ إلَّا وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَلاَ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَقَالَ‏:‏ عَلِيٌّ الْجِزْيَةُ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ، وَلَمْ أَعْلَمْ مِمَّنْ سَلَفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا أَجَازَ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ بَجَالَةَ يَقُولُ‏:‏ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ أَهْلِ هَجَرَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَحَدِيثُ بَجَالَةَ مُتَّصِلٌ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ وَكَانَ رَجُلاً فِي زَمَانِهِ كَاتِبًا لِعُمَّالِهِ وَحَدِيثِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّصِلٌ وَبِهِ يَأْخُذُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْحِجَازِ حَدِيثَانِ مُنْقَطِعَانِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذُكِرَ لَهُ الْمَجُوسُ فَقَالَ‏:‏ مَا أَدْرِي كَيْف أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ فَقَالَ‏:‏ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ إنْ كَانَ ثَابِتًا فَنُفْتِي فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ لاَ أَنَّهُ يُقَالُ إذَا قَالَ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي أَنْ تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ وَتُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ قَالَ‏:‏ وَلَوْ أَرَادَ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَقَالَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ سُنُّوا بِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ‏:‏ سُنُّوا بِهِمْ، فَقَدْ خَصَّهُمْ، وَإِذَا خَصَّهُمْ فَغَيْرُهُمْ مُخَالِفٌ، وَلاَ يُخَالِفُهُمْ إلَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ» وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله تعالى عنه أَخَذَهَا مِنْ الْبَرْبَرِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله‏:‏ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ عُمَرُ عَنْ الْمَجُوسِ وَيَقُولَ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِمْ، وَهُوَ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لاَ يَسْأَلُ عَمَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ، وَلَكِنَّهُ سَأَلَ عَنْ الْمَجُوسِ إذْ لَمْ يَعْرِفْ مِنْ كِتَابِهِمْ مَا عَرَفَ مِنْ كِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَتَّى أُخْبِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخْذِهِ الْجِزْيَةَ وَأَمْرِهِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَيَتَّبِعُهُ، وَفِي كُلِّ مَا حَكَيْت مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَسَعُهُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

تَفْرِيعُ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ

أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ‏:‏ قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَكُلُّ مَنْ دَانَ وَدَانَ آبَاؤُهُ، أَوْ دَانَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَدِنْ آبَاؤُهُ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيَّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ وَخَالَفَ دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَعَلَى الْإِمَامِ إذَا أَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَهُوَ صَاغِرٌ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا‏.‏

وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْإِسْلاَمُ، وَلاَ يَدِينُ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ كَانَ عَرَبِيًّا، أَوْ عَجَمِيًّا، فَأَرَادَ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيُقَرَّ عَلَى دِينِهِ، أَوْ يَحْدُثَ أَنْ يَدِينَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْجِزْيَةَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُ حَتَّى يُسْلِمَ كَمَا يُقَاتِلُ أَهْلَ الْأَوْثَانِ حَتَّى يُسْلِمُوا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَأَيُّ مُشْرِكٍ مَا كَانَ إذَا لَمْ يَدَعْ أَهْلَ دِينِهِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ كَأَهْلِ الْأَوْثَانِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَعْبُدَ الصَّنَمَ وَمَا اسْتَحْسَنَ مِنْ شَيْءٍ وَمَنْ يُعَطِّلُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ‏.‏

وَمَنْ غَزَا الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ يَجْهَلُونَ دِينَهُ فَذَكَرُوا لَهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ سُئِلُوا مَتَى دَانُوا بِهِ وَآبَاؤُهُمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلُوا قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ يَعْلَمُوا غَيْرَ مَا قَالُوا، فَإِنْ عَلِمُوا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يَدَعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يَقْتُلُوا، وَإِنْ عَلِمُوهُ بِإِقْرَارٍ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَدِنْ، وَلَمْ يَدِنْ آبَاؤُهُ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا فِي وَقْتٍ يَذْكُرُونَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى دِينِهِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَلاَ يَكُونُ الْإِمَامُ أَخَذَهَا إلَّا أَنْ يَقُولَ آخُذُهَا مِنْكُمْ حَتَّى أَعْلَمَ إنْ لَمْ تَدِينُوا وَآبَاؤُكُمْ هَذَا الدِّينَ إلَّا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عَلِمْته لَمْ آخُذْهَا مِنْكُمْ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ وَنَبَذْت إلَيْكُمْ فَإِمَّا أَنْ تُسْلِمُوا وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلُوا فَإِذَا أَخْبَرَنَا مِنْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ قَوْمًا عُدُولاً فَاثْبُتُوا لَنَا عَلَى هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَخَذْت مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِقَوْلِهِمْ بِأَنْ لَمْ يَدِينُوا دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحَالٍ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ، وَإِنْ شَهِدَ هَؤُلاَءِ النَّفَرُ الْمُسْلِمُونَ، أَوْ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ إنْ لَمْ يَدِينُوا دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا فِي وَقْتِ كَذَا وَأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا يَدِينُونَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ نَبَذْت إلَى مَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَدِنْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا فِي وَقْتِ كَذَا وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ، قَالَ‏:‏ وَلَمْ يَنْبِذْ إلَى صِغَارِهِمْ إذْ كَانَ آبَاؤُهُمْ دَانُوا دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ‏.‏

وَلَوْ أَنَّ هَؤُلاَءِ النَّفَرَ الْعُدُولَ شَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا دَانُوا دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ كَانَ إقْرَارًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ أَجْعَلُهُ شَهَادَةً عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلاَ أَقْبَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا بِأَنْ يُثْبِتُوهَا عَلَيْهِ أَنَّ الْفُرْقَانَ نَزَلَ، وَلاَ يَدِينُ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِذَا فَعَلُوا لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةَ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ دِينُهُ دِينَ آبَائِهِ إذَا بَلَغَ إنَّمَا يَكُونُ مُقَرًّا عَلَى دِينِ آبَائِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ، فَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَا رَجُلَيْنِ مَاتَ عَلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَلَهُ ابْنٌ بَالِغٌ مُخَالِفٌ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَابْنٌ صَغِيرٌ وَنَزَلَ الْفُرْقَانُ وَهُمَا بِتِلْكَ الْحَالِ فَبَلَغَ الصَّغِيرُ وَدَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَادَ الْبَالِغُ إلَى دِينِهِمْ أَخَذْت الْجِزْيَةَ مِنْ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُقِرُّ عَلَى دِينِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَدِنْ بَعْدَ الْبُلُوغِ دِينًا غَيْرَهُ، وَلاَ آخُذُهَا مِنْ الْكَبِيرِ الَّذِي نَزَلَ الْفُرْقَانُ، وَهُوَ عَلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

مَنْ تُرْفَعُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَ بَيِّنًا فِي الآيَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قِتَالَهُمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِالْبُلُوغِ فَتَرَكُوا دِينَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَقَامُوا عَلَى مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَ بَيِّنًا أَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ عَلَيْهَا الَّذِينَ فِيهِمْ الْقِتَالُ وَهُمْ الرِّجَالُ الْبَالِغُونَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ ثُمَّ أَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمُحْتَلِمِينَ دُونَ مَنْ دُونَهُمْ وَدُونَ النِّسَاءِ «وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ تُقْتَلَ النِّسَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلاَ الْوِلْدَانُ وَسَبَاهُمْ» فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرِّجَالِ، وَلاَ جِزْيَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ الرِّجَالِ، وَلاَ عَلَى امْرَأَةٍ، وَكَذَلِكَ لاَ جِزْيَةَ عَلَى مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لاَ دِينَ لَهُ تَمَسَّكَ بِهِ تَرَكَ لَهُ الْإِسْلاَمُ، وَكَذَلِكَ لاَ جِزْيَةَ عَلَى مَمْلُوكٍ؛ لِأَنَّهُ لاَ مَالَ لَهُ يُعْطِي مِنْهُ الْجِزْيَةَ فَأَمَّا مَنْ غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ أَيَّامًا ثُمَّ أَفَاقَ، أَوْ جُنَّ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَلَيْسَ يَخْلُو بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْعِلَّةِ يَغْرُبُ بِهَا عَقْلُهُ ثُمَّ يُفِيقُ، فَإِذَا أَخَذْت مِنْ صَحِيحٍ ثُمَّ غَلَبَ عَقْلُهُ حَسَبَ لَهُ مِنْ يَوْمِ غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ فَإِنْ أَفَاقَ لَمْ تُرْفَعْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يُفِقْ رُفِعَتْ عَنْهُ مِنْ يَوْمِ غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ قَالَ‏:‏ وَإِذَا صُولِحُوا عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا عَنْ أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ سِوَى مَا يُؤَدُّونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّجَالِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ كَمَا اُزْدِيدَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ وَمِنْ الصَّدَقَةِ وَمِنْ أَمْوَالِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُهُمْ إذَا شَرَطُوهُ لَنَا، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَنْ يُؤَدُّوهَا مِنْ أَمْوَالِ نِسَائِهِمْ، أَوْ أَبْنَائِهِمْ الصِّغَارِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ لَنَا أَنْ نَأْخُذَهُ مِنْ أَبْنَائِهِمْ، وَلاَ نِسَائِهِمْ بِقَوْلِهِمْ فَلاَ شَيْئًا عَلَيْك فَإِنْ قَالَتْ‏:‏ فَإِنْ أُؤَدِّي بَعْدَ عِلْمِهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهَا وَمَتَى امْتَنَعْت، وَقَدْ شَرَطَتْ أَنْ تُؤَدِّيَ لَمْ يَلْزَمْهَا الشَّرْطُ مَا أَقَامَتْ فِي بِلاَدِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَجَرَتْ بِمَالِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا أَنْ تُؤَدِّيَ إلَّا أَنْ تَشَاءَ، وَلَكِنَّهَا تُمْنَعُ الْحِجَازَ فَإِنْ قَالَتْ أَدْخُلُهَا عَلَى شَيْءٍ يُؤْخَذُ مِنِّي فَأَلْزَمَتْهُ نَفْسَهَا جَازَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا دُخُولُ الْحِجَازِ‏.‏

وَإِذَا صَالَحَتْ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ مَالِهَا شَيْءٌ فِي غَيْرِ بِلاَدِ الْحِجَازِ فَإِنْ أَدَّتْهُ قُبِلَ، وَإِنْ مَنَعَتْهُ بَعْدَ شَرْطِهِ فَلَهَا مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَبِينُ لِي أَنَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ غَيْرِ الْحِجَازِ وَلَوْ شَرَطَ هَذَا صَبِيٌّ، أَوْ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يَجُزْ الشَّرْطُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ أَبُو الصَّبِيِّ، أَوْ الْمَعْتُوهِ أَوْ وَلِيُّهُمَا ذَلِكَ عَلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا وَلَنَا أَنْ نَمْنَعَهُمَا مِنْ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي بِلاَدِ الْحِجَازِ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مَالُهُمَا مَعَ الَّذِي لاَ يُؤَدِّي شَيْئًا عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَكُونُ لَنَا مَنْعُهُ مِنْ مُسْلِمٍ، وَلاَ ذِمِّيٍّ يُؤَدِّي عَنْ مَالِهِ وَتُمْنَعُ أَنْفُسُهُمَا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ دَارٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ امْتَنَعَ رِجَالُهُمْ مِنْ أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى جِزْيَةٍ، أَوْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ وَأَطَاعُوا بِالْجِزْيَةِ وَلَنَا قُوَّةٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ فِي صُلْحِهِمْ نَظَرٌ فَسَأَلُوا أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ دُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا، وَإِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَالصُّلْحُ مُنْتَقَضٌ، وَلاَ نَأْخُذُ مِنْهُمْ شَيْئًا إنْ سَمَّوْهُ عَلَى النِّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ مَنَعُوا أَمْوَالَهُمْ بِالْأَمَانِ وَلَيْسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ جِزْيَةٌ، وَكَذَلِكَ لاَ نَأْخُذُهَا مِنْ رِجَالِهِمْ، وَإِنْ شَرَطَهَا رِجَالُهُمْ، وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا أَخَذْنَاهَا مِنْ أَمْوَالِ مَنْ شَرَطَهَا بِشَرْطِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَعَا إلَى هَذَا النِّسَاءُ وَالْأَبْنَاءُ لَمْ يُؤْخَذْ هَذَا مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ النِّسَاءُ وَالْأَبْنَاءُ أخلياء مِنْ رِجَالِهِمْ فَفِيهَا قَوْلاَنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ وَلَنَا أَنْ نَسْبِيَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا أَذِنَ بِالْجِزْيَةِ مَعَ قَطْعِ حَرْبِ الرِّجَالِ وَأَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ، وَلاَ حَرْبَ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إنَّمَا هُنَّ غَنِيمَةٌ وَلَيْسُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ بِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ لَيْسَ لَنَا سِبَاؤُهُمْ وَعَلَيْنَا الْكَفُّ عَنْهُمْ إذَا أَقَرُّوا بِأَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا، وَإِنْ أَخَذْنَاهُ فَعَلَيْنَا رَدُّهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَتُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الرُّهْبَانِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي الزَّمِنِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ مِنْ رِجَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ‏.‏

وَإِذَا صَالَحَ الْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْجِزْيَةِ ثُمَّ بَلَغَ مِنْهُمْ مَوْلُودٌ قَبْلَ حَوْلِهِمْ بِيَوْمٍ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ فَرَضِيَ بِالصُّلْحِ سُئِلَ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِالْأَدَاءِ لِحَوْلِ قَوْمِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ فَحَوْلُهُ حَوْلُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ بِالْبُلُوغِ وَالرِّضَا وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْإِمَامُ مِنْ حِينِ رَضِيَ عَلَى حَوْلِهِ أَصْحَابُهُ وَفَضَلَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سَنَةٍ قَبْلَهَا لِئَلَّا تَخْتَلِفَ أَحْوَالُهُمْ كَأَنْ بَلَغَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ فَصَالَحَهُ عَلَى دِينَارٍ كُلِّ حَوْلٍ فَيَأْخُذُ مِنْهُ إذَا حَالَ حَوْلُ أَصْحَابِهِ نِصْفَ سُدُسِ دِينَارٍ، وَفِي حَوْلٍ مُسْتَقْبَلٍ مَعَهُمْ دِينَارٌ، فَإِذَا أَخَّرَهُ أُخِذَ مِنْهُ فِي حَوْلِ أَصْحَابِهِ دِينَارٌ وَنِصْفُ سُدُسِ دِينَارٍ‏.‏

الصَّغَارُ مَعَ الْجِزْيَةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَلَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ أَمَرَ بِأَخْذِهَا مِنْهُ حَتَّى يُعْطِيَهَا عَنْ يَدٍ صَاغِرًا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَسَمِعْت عَدَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ الصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلاَمِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالُوا بِمَا قَالُوا لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْإِسْلاَمِ، فَإِذَا جَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ، فَقَدْ أُصْغِرُوا بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَإِذَا أَحَاطَ الْإِمَامُ بِالدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِيَ أَهْلَهَا، أَوْ قَهَرَ أَهْلَهَا الْقَهْرَ الْبَيِّنَ، وَلَمْ يَسْبِهِمْ، أَوْ كَانَ عَلَى سَبْيِهِ بِالْإِحَاطَةِ مِنْ قَهْرِهِ لَهُمْ، وَلَمْ يَغْزُهُمْ لِقُرْبِهِمْ أَوْ قِلَّتِهِمْ، أَوْ كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلاَمِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُمْ، وَلَوْ سَأَلُوهُ أَنْ يُعْطُوهَا عَلَى أَنْ لاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلاَمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَهُمْ صَاغِرُونَ بِأَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلاَمِ قَالَ فَإِنْ سَأَلُوهُ أَنْ يَتْرُكُوا مِنْ شَيْءٍ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلاَمِ إذَا طَلَبَهُمْ بِهِ غَيْرُهُمْ، أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ غَيْرِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ، وَلاَ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي غَزْوِهِمْ مَشَقَّةٌ، أَوْ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَنْتَابُهُمْ عَنْهُمْ ضَعْفٌ، أَوْ بِهِمْ انْتِصَافٌ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُوَادِعُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطُوا شَيْئًا أَوْ أَعْطَوْهُ عَلَى النَّظَرِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلاَمِ كَمَا يَجُوزُ تَرْكُ قِتَالِهِمْ وَمُوَادَعَتِهِمْ عَلَى النَّظَرِ، وَهَذَا مَوْضُوعٌ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ دُونَ الْجِزْيَةِ‏.‏

مَسْأَلَةُ إعْطَاءِ الْجِزْيَةَ بَعْدَمَا يُؤْسَرُونَ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَإِذَا أَسَرَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَوَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَوْلاَدَهُمْ فَسَأَلُوهُ تَخْلِيَتَهُمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَاءَهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ فِي نِسَائِهِمْ، وَلاَ أَوْلاَدِهِمْ، وَلاَ مَا غَلَبَ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِذَا سَأَلُوهُ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا غَنِيمَةً، أَوْ فَيْئًا وَكَانَ لَهُ الْقَتْلُ وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ كَمَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ فِي أَحْرَارِ رِجَالِهِمْ الْبَالِغِينَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَنَّ وَفَادَى وَقَتَلَ أَسْرَى الرِّجَالِ وَأَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فِيهِمْ فَقَالَ‏:‏ «فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَلَوْ كَانَ أَسَرَ أَكْثَرَ الرِّجَالِ وَحَوَى أَكْثَرَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيّ وَالْأَمْوَالِ وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ لَمْ يَصِلْ إلَى أَسْرِهِمْ بِامْتِنَاعٍ فِي مَوْضِعٍ، أَوْ هَرَبٍ كَانَ لَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُمْتَنِعِينَ أَحَدَ الْجِزْيَةِ وَالْأَمَانِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ إنْ لَمْ يَكُنْ أَحْرَزَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَإِنْ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَكَانَ قَدْ أَحْرَزَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ مَا أَحْرَزَ لَهُمْ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا لَمْ يُحْرِزْ لَهُمْ أَوْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ‏.‏

وَلَوْ جَاءَ الْإِمَامَ رُسُلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَجَابَهُمْ إلَى أَمَانِ مَنْ جَاءُوا عِنْدَهُ مِنْ بَلَدِ كَذَا وَكَذَا عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَخَالَفَ الرُّسُلُ مَنْ غَزَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَافْتَتَحُوهَا وَحَوَوْا بِلاَدَهُمْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ كَانَ لَهُمْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَقَبْلَ أَنْ يَحْوُوا الْبِلاَدَ خَلَّى سَبِيلَهُمْ وَكَانَتْ لَهُمْ الذِّمَّةُ عَلَى مَا أَعْطَوْا، وَلَوْ أَعْطَوْا ذِمَّةً مُنْتَقِصَةً خَلَّى سَبِيلَهُمْ وَنَبَذَ إلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ سَبَاؤُهُمْ وَالْغَلَبَةُ عَلَى بِلاَدِهِمْ كَانَ قَبْلَ إعْطَاءِ الْإِمَامِ إيَّاهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ مَضَى عَلَيْهِمْ السِّبَاءُ وَبَطَلَ مَا أَعْطَى الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى الْأَمَانَ مَنْ كَانَ رَقِيقًا وَمَا لَهُ غَنِيمَةً، أَوْ فَيْئًا كَمَا لَوْ أَعْطَى قَوْمًا حَوَوْا أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ‏.‏

مَسْأَلَةُ إعْطَاءِ الْجِزْيَةَ عَلَى سُكْنَى بَلَدٍ وَدُخُولِهِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏ الْآيَةُ قَالَ فَسَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الْحَرَمُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «لاَ يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ، وَلاَ لِمُشْرِكٍ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ» قَالَ‏:‏ وَسَمِعْت عَدَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي يَرْوُونَ أَنَّهُ كَانَ فِي رِسَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ يَجْتَمِعُ مُسْلِمٌ وَمُشْرِكٌ فِي الْحَرَمِ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا» فَإِنْ سَأَلَ أَحَدٌ مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَنْ يُعْطِيَهَا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى أَنْ يُتْرَكَ يَدْخُلَ الْحَرَمَ بِحَالٍ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، وَلاَ أَنْ يَدَعَ مُشْرِكًا يَطَأُ الْحَرَمَ بِحَالٍ مِنْ الْحَالاَتِ طَبِيبًا كَانَ أَوْ صَانِعًا بُنْيَانًا، أَوْ غَيْرَهُ لِتَحْرِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُخُولَ الْمُشْرِكِينَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَبَعْدَهُ تَحْرِيمُ رَسُولِهِ ذَلِكَ وَإِنْ سَأَلَ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَنْ يُعْطِيَهَا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمُخَالِفِيهَا كُلُّهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ بِسُكْنَى الْحِجَازِ مَنْسُوخٌ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ حِينَ عَامَلَهُمْ فَقَالَ‏:‏ «أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ» ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلاَئِهِمْ مِنْ الْحِجَازِ، وَلاَ يَجُوزُ صُلْحُ ذِمِّيٍّ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ بِحَالٍ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لاَ يَدْخُلَ الْحِجَازَ مُشْرِكٌ بِحَالٍ لِمَا وَصَفْت مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلاَ يَبِينُ لِي أَنْ يَحْرُمَ أَنْ يَمُرَّ ذِمِّيٌّ بِالْحِجَازِ مَارًّا لاَ يُقِيمُ بِبَلَدٍ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ لَيَالٍ وَذَلِكَ مُقَامُ مُسَافِرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلاَئِهِمْ عَنْهَا أَنْ لاَ يَسْكُنُوهَا وَيَحْتَمِلُ لَوْ ثَبَتَ عَنْهُ «لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ» لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ مُقِيمَانِ، وَلَوْلاَ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى الْخَرَاجَ أَهْلَ الذِّمَّةِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَمِلٌ مَا رَأَى عُمَرُ مِنْ أَنَّ أَجَلَ مَنْ قَدِمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَاجِرًا ثَلاَثٌ لاَ يُقِيمُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَرَأَيْت أَنْ لاَ يُصَالَحُوا بِدُخُولِهَا بِكُلِّ حَالٍ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلاَ يَتَّخِذُ ذِمِّيٌّ شَيْئًا مِنْ الْحِجَازِ دَارًا، وَلاَ يُصَالَحُ عَلَى دُخُولِهَا إلَّا مُجْتَازًا إنْ صُولِحَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْحِجَازَ فَذَهَبَ لَهُمْ بِهَا مَالٌ، أَوْ عَرَضٌ بِهَا شُغْلٌ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ وَكِّلُوا بِهَا مَنْ شِئْتُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْرِجُوا، وَلاَ يُقِيمُونَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَمَّا مَكَّةُ فَلاَ يَدْخُلُ الْحَرَمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِحَالٍ أَبَدًا كَانَ لَهُمْ بِهَا مَالٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَخَلَهَا فَمَرِضَ أُخْرِجَ مَرِيضًا، أَوْ مَاتَ أُخْرِجَ مَيِّتًا، وَلَمْ يُدْفَنْ بِهَا وَإِنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ دُفِنَ حَيْثُ يَمُوتُ، أَوْ مَرِضَ فَكَانَ لاَ يُطِيقُ أَنْ يُحْمَلَ إلَّا بِتَلَفٍ عَلَيْهِ، أَوْ زِيَادَةٍ فِي مَرَضِهِ تُرِكَ حَتَّى يُطِيقَ الْحَمْلَ ثُمَّ يُحْمَلَ قَالَ، وَإِنْ صَالَحَ الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى شَيْءٍ يَأْخُذُهُ فِي السَّنَةِ مِنْهُمْ مِمَّا قُلْت لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ شَيْئًا فَيَقْبِضُ مَا حَلَّ عَلَيْهِمْ فَلاَ يَرُدُّ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى لَهُ بِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ مُضِيِّ نِصْفِ السَّنَةِ نَبَذَهُ إلَيْهِمْ مَكَانَهُ وَأَعْلَمَ أَنَّ صُلْحَهُمْ لاَ يَجُوزُ وَقَالَ‏:‏ إنْ رَضِيتُمْ صُلْحًا يَجُوزُ جَدَّدْته لَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَوْهُ أَخَذْت مِنْكُمْ مَا وَجَبَ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ نِصْفُ مَا صَالَحْتُكُمْ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ لَكُمْ وَنَبَذْت إلَيْكُمْ، وَإِنْ كَانُوا صَالَحُوا عَلَى أَنْ سَلَّفُوهُ شَيْئًا لِسَنَتَيْنِ رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا صَالَحُوهُ عَلَيْهِ إلَّا قَدْرَ مَا اسْتَحَقَّ بِمُقَامِهِمْ وَنَبَذَ إلَيْهِمْ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا أَجْلَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَمَنِ وَقَدْ كَانَتْ بِهَا ذِمَّةٌ وَلَيْسَتْ بِحِجَازٍ فَلاَ يُجْلِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْيَمَنِ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مُقَامِهِمْ بِالْيَمَنِ‏.‏

فَأَمَّا سَائِرُ الْبُلْدَانِ مَا خَلاَ الْحِجَازِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى الْمُقَامِ بِهَا، فَإِذَا وَقَعَ لِذِمِّيٍّ حَقٌّ بِالْحِجَازِ وَكَّلَ بِهِ، وَلَمْ أُحِبَّ أَنْ يَدْخُلَهَا بِحَالٍ، وَلاَ يَدْخُلَهَا لِمَنْفَعَةٍ لِأَهْلِهَا، وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْباب الدُّخُولِ كَتِجَارَةٍ يُعْطِي مِنْهَا شَيْئًا، وَلاَ كِرَاءٍ يَكْرِيهِ مُسْلِمٌ، وَلاَ غَيْرِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِإِجْلاَئِهِ مِنْ مَوْضِعٍ، فَقَدْ يُمْنَعُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُجْلِيَ مِنْهُ، وَهَذَا إذَا فَعَلَ فَلَيْسَ فِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلاَ يَتَبَيَّنُ أَنْ يُمْنَعُوا رُكُوبَ بَحْرِ الْحِجَازِ وَيُمْنَعُونَ الْمُقَامَ فِي سَوَاحِلِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ جَزَائِرُ وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا سُكْنَاهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَإِذَا دَخَلَ الْحِجَازَ مِنْهُمْ رَجُلٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ إلَيْهِ أُدِّبَ وَأُخْرِجَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ لَمْ يُؤَدَّبْ وَأُخْرِجَ، وَإِنْ عَادَ أُدِّبَ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَكَّةَ أُخْرِجَ مِنْهَا وَأُخْرِجَ مِنْ الْحَرَمِ فَدُفِنَ فِي الْحِلِّ، وَلاَ يُدْفَنُ فِي الْحَرَمِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَضَى أَنْ لاَ يَقْرُبَ مُشْرِكٌ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَلَوْ أَنْتَنَ أُخْرِجَ مِنْ الْحَرَمِ وَلَوْ دُفِنَ بِهَا نُبِشَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِنْ مَاتَ بِالْحِجَازِ دُفِنَ بِهَا، وَإِنْ مَرِضَ فِي الْحَرَمِ أُخْرِجَ فَإِنْ مَرِضَ بِالْحِجَازِ يُمْهَلُ بِالْإِخْرَاجِ حَتَّى يَكُونَ مُحْتَمِلاً لِلسَّفَرِ فَإِنْ احْتَمَلَهُ أُخْرِجَ قَالَ‏:‏ وَقَدْ وَصَفْت مَقْدَمَهُمْ بِالتِّجَارَاتِ بِالْحِجَازِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لاَ يُتْرَكُوا بِالْحِجَازِ بِحَالٍ لِتِجَارَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا‏.‏

كَمْ الْجِزْيَةُ‏؟‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ‏}‏ وَكَانَ مَعْقُولاً أَنَّ الْجِزْيَةَ شَيْءٌ يُؤْخَذُ فِي أَوْقَاتٍ وَكَانَتْ الْجِزْيَةُ مُحْتَمِلَةً لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعْنَى مَا أَرَادَ «فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِزْيَةَ أَهْلِ الْيَمَنِ دِينَارًا فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيِّ» وَهِيَ الثِّيَابُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ وَمِنْ نَصَارَى مَكَّةَ دِينَارًا عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ، قَالَ‏:‏ وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ فِيهَا كِسْوَةٌ، وَلاَ أَدْرِي مَا غَايَةُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ، وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يَذْكُرُ أَنَّ قِيمَةَ مَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ دِينَارٍ وَأَخَذَهَا مِنْ أُكَيْدِرَ، وَمِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ لاَ أَدْرِي كَمْ غَايَةُ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا قَطُّ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ أَحَدٍ أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ إنَّ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ مِنْكُمْ دِينَارًا، أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيِّ» يَعْنِي أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ أَخْبَرَنِي مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ وَهِشَامُ بْنُ يُوسُفَ بِإِسْنَادٍ لاَ أَحْفَظُهُ غَيْرَ أَنَّهُ حَسَنٌ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ» قُلْت لِمُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ فَإِنَّهُ يُقَالُ وَعَلَى النِّسَاءِ أَيْضًا فَقَالَ‏:‏ لَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ النِّسَاءِ ثَابِتًا عِنْدَنَا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَسَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ وَعِدَّةً مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْيَمَنِ فَكُلٌّ حَكَى عَنْ عَدَدٍ مَضَوْا قَبْلَهُمْ كُلُّهُمْ ثِقَةٌ أَنَّ صُلْحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ كَانَ لِأَهْلِ ذِمَّةِ الْيَمَنِ عَلَى دِينَارٍ كُلِّ سَنَةٍ، وَلاَ يُثْبِتُونَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَقَالَ‏:‏ عَامَّتُهُمْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ زُرُوعِهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ الزُّرُوعُ، وَلاَ مِنْ مَوَاشِيهِمْ شَيْئًا عَلِمْنَاهُ وَقَالَ لِي‏:‏ قَدْ جَاءَنَا بَعْضُ الْوُلاَةِ فَخَمَّسَ زُرُوعَهُمْ، أَوْ أَرَادُوهَا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ وَصَفْت أَخْبَرَنِي أَنَّ عَامَّةَ ذِمَّةِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ حِمْيَرَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ سَأَلْت عَدَدًا كَثِيرًا مِنْ ذِمَّةِ أَهْلِ الْيَمَنِ مُفْتَرِقِينَ فِي بُلْدَانِ الْيَمَنِ فَكُلُّهُمْ أَثْبَتَ لِي لاَ يَخْتَلِفُ قَوْلُهُمْ أَنَّ مُعَاذًا أَخَذَ مِنْهُمْ دِينَارًا عَلَى كُلِّ بَالِغٍ وَسَمَّوْا الْبَالِغَ الْحَالِمَ قَالُوا كَانَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُعَاذٍ «إنَّ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ مَوْهَبٌ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ ثَلاَثَمِائَةِ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ وَأَنْ يُضَيِّفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثًا، وَلاَ يَغُشُّوا مُسْلِمًا» أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ ثَلاَثَمِائَةٍ فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ثَلاَثَمِائَةِ دِينَارٍ كُلَّ سَنَةٍ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَإِذَا دَعَا مَنْ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الْجِزْيَةُ إلَى الْجِزْيَةِ عَلَى مَا يَجُوزُ وَبَذَلَ دِينَارًا عَنْ نَفْسِهِ كُلَّ سَنَةٍ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ إلَّا قَبُولُهُ مِنْهُ، وَإِنْ زَادَهُ عَلَى دِينَارٍ مَا بَلَغَتْ الزِّيَادَةُ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ جَازَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ دِينَارًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَالضِّيَافَةُ زِيَادَةٌ عَلَى الدِّينَارِ وَسَوَاءٌ مُعْسِرُ الْبَالِغِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُوسِرُهُمْ بَالِغًا مَا بَلَغَ يُسْرُهُ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ أَهْلَ الْيَمَنِ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ عَلَى دِينَارٍ عَلَى الْمُحْتَلِمِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَنَّ مِنْهُمْ الْمُعْسِرَ فَلَمْ يَضَعْ عَنْهُ وَأَنَّ فِيهِمْ الْمُوسِرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَمَنْ عَرَضَ دِينَارًا مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ عَرَضَ أَقَلَّ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ صَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ نَعْلَمْهُ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ فَالدِّينَارُ أَقَلُّ مَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعَلَيْهِ إنْ بَذَلُوهُ قَبُولُهُ مِنْهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَزِدْ ضِيَافَةً، وَلاَ شَيْئًا يُعْطِيهِ مِنْ مَالِهِ‏.‏

فَإِنْ صَالَحَ السُّلْطَانُ أَحَدًا مِمَّنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، وَهُوَ يَقْوَى عَلَيْهِ عَلَى الْأَبَدِيِّ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَمَّنْ أَعْسَرَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْجِزْيَةَ، أَوْ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ إنْ مَضَتْ مُدَّةٌ بَعْدَ الصُّلْحِ تُوجِبُ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ شَيْئًا وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ حَتَّى يُصَالِحُوهُ صُلْحًا جَائِزًا، وَإِنْ صَالِحُوهُ صُلْحًا جَائِزًا عَلَى دِينَارٍ، أَوْ أَكْثَرَ فَأَعْسَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِجِزْيَتِهِ فَالسُّلْطَانُ غَرِيمٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ لَيْسَ بِأَحَقَّ بِمَالِهِ مِنْ غُرَمَائِهِ، وَلاَ غُرَمَائِهِ مِنْهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِنْ فَلَّسَهُ لِأَهْلِ دِينِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ ضَرَبَ مَعَ غُرَمَائِهِ بِحِصَّةِ جِزْيَتِهِ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ مِنْ الْحَوْلِ، وَإِنْ قَضَاهُ الْجِزْيَةَ دُونَ غُرَمَائِهِ كَانَ لَهُ مَا لَمْ يَسْتَعِدَّ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ، أَوْ بَعْضُهُمْ، فَإِذَا اسْتَعْدَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ جِزْيَتَهُ دُونَهُمْ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ حِينَ اسْتَعْدَى عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ مَالُهُ إذَا أَقَرَّ بِهِ، أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَسْتَعْدِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَخْذُ جِزْيَتِهِ مِنْهُ دُونَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ حَقٌّ عِنْدَهُ حِينَ أَخَذَ جِزْيَتَهُ‏.‏

وَإِنْ صَالَحَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ فَغَابَ الذِّمِّيُّ فَلَهُ أَخْذُ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا عَلِمَ حَيَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُ سَأَلَ وَكِيلَهُ وَمَنْ يَقُومُ بِمَالِهِ عَنْ حَيَاتِهِ فَإِنْ قَالُوا‏:‏ مَاتَ، وَقَفَ مَالَهُ وَأَخَذَ مَا اسْتَحَقَّ فِيهِ إلَى يَوْمِ يَقُولُونَ مَاتَ فَإِنْ قَالُوا‏:‏ حَيٌّ، وَقَفَ مَالَهُ إلَّا أَنْ يُعْطُوهُ مُتَطَوِّعِينَ الْجِزْيَةَ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ حَيَاتَهُ إلَّا أَنْ يُعْطُوهُ إيَّاهَا مُتَطَوِّعِينَ، أَوْ يَكُونَ بِعِلْمِ وَرَثَتِهِ كُلِّهِمْ وَأَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا بَالِغِينَ يَجُوزُ أَمْرُهُمْ فِي مَالِهِمْ فَيُجِيزُ عَلَيْهِمْ إقْرَارُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ فَهُوَ مَالُهُمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى، وَإِنْ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَالِهِ لِسَنَتَيْنِ ثُمَّ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَهُمَا‏.‏ رَدَّ حِصَّةَ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ فَإِنْ كَانَ مَا يُصِيبُهُ إذَا حاصصهم فِي الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ أَقَلُّ مِمَّا أَخَذَ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ بَالِغِينَ جَائِزِي الْأَمْرَ فَقَالُوا مَاتَ أَمْسِ وَشَهِدَ شُهُودٌ أَنَّهُ مَاتَ عَامَ أَوَّلَ فَسَأَلَ الْوَرَثَةُ الْوَالِيَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ جِزْيَتَهُ سَنَةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الشُّهُودَ بِسُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَلَوْ جَاءَنَا وَارِثَانِ فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا الشُّهُودَ وَكَذَّبَهُمْ الْآخَرُ فَكَانَا كَرَجُلَيْنِ شَهِدَ لَهُمَا رَجُلاَنِ بِحَقَّيْنِ فَصَدَّقَهُمَا أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمَا الْآخَرُ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِلَّذِي صَدَّقَهُمَا وَتُرَدُّ لِلَّذِي كَذَّبَهُمَا وَكَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَ الدِّينَارِ عَلَى الْوَارِثِ الَّذِي صَدَّقَ الشُّهُودَ، وَلاَ يَرُدُّ عَلَى الَّذِي كَذَّبَ الشُّهُودَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَإِنْ أَخَذْنَا الْجِزْيَةَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا فَافْتَقَرَ كَانَ الْإِمَامُ غَرِيمًا مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى فَقِيرٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ‏:‏ الصَّدَقَاتُ فَهِيَ لِأَهْلِهَا الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَالْفَيْءُ فَلِأَهْلِهِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، وَالْغَنِيمَةُ فَلِأَهْلِهَا الَّذِينَ حَضَرُوهَا، وَأَهْلُ الْخُمُسِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْفَالِ وَكُلُّ هَؤُلاَءِ مُسْلِمٌ فَحَرَامٌ عَلَى الْإِمَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُعْطِيهِ مُسْلِمًا غَيْرَهُ فَكَيْفَ بِذِمِّيٍّ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَا تَطَوَّلَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَصِيبًا‏؟‏ أَلاَ تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْهُمْ يَمُوتُ فَلاَ يَكُونُ لَهُ وَارِثٌ فَيَكُونُ مَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْعَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِتَخْوِيلِهِمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَتَخَوَّلُونَهُ قَبْلَ تَخْوِيلِهِمْ وَبِأَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فَيْئًا وَغَنِيمَةً‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَيَرْوُونَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ جِزْيَةً دِينَارٌ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ» وَضِيَافَةُ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتِلْكَ زِيَادَةٌ عَلَى الدِّينَارِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَإِنْ بَذَلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ بَالِغًا مَا بَلَغَ كَانَ الِازْدِيَادُ أَحَبَّ إلَيَّ، وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْإِمَامِ مِمَّا زَادُوهُ شَيْءٌ، وَقَدْ صَالَحَ عُمَرُ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَضِيَافَةٍ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَعَلَى أَهْلِ الْيُسْرِ وَعَلَى أَهْلِ الْأَوْسَاطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَعَلَى مَنْ دُونَهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَهَذَا فِي الدِّرْهَمِ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ عُمَرَ بِأَنَّهُ عَدَّلَ الدَّرَاهِمَ فِي الدِّيَةِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَرَضَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ ضِيَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَمَنْ حَبَسَهُ مَرَضٌ، أَوْ مَطَرٌ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَحَدِيثُ أَسْلَمَ ضِيَافَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الضِّيَافَةَ ثَلاَثًا»، وَقَدْ يَكُونُ جَعَلَهَا عَلَى قَوْمٍ ثَلاَثًا وَعَلَى قَوْمٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى آخَرِينَ ضِيَافَةً كَمَا يَخْتَلِفُ صُلْحُهُ لَهُمْ فَلاَ يَرُدُّ بَعْضُ الْحَدِيثِ بَعْضًا‏.‏

بِلاَدُ الْعَنْوَةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَإِذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى بِلاَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَنَفَى عَنْهَا أَهْلَهَا، أَوْ ظَهَرَ عَلَى بِلاَدٍ وَقَهَرَ أَهْلَهَا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ بِلاَدِ الْحَرْبِ الَّتِي ظَهَرَ عَلَيْهَا وَبَيْنَ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ مُشْرِكٌ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مُشْرِكُونَ لاَ يَمْنَعُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ الَّذِينَ ظَهَرُوا عَلَى بِلاَدِهِمْ وَكَانَ قَاهِرًا لِمَنْ بَقِيَ مَحْصُورًا وَمُنَاظِرًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا فَسَأَلَهُ أُولَئِكَ مِنْ الْعَدُوِّ وَأَنْ يَدَعَ لَهُمْ أَمْوَالَهُمْ عَلَى شَيْءٍ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِيهَا، أَوْ مِنْهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ وَمِلْكًا لَهُمْ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ إلَّا قَسْمُهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ فَإِنَّهُ ظَهَرَ عَلَيْهَا، وَهُوَ فِي عَدَدٍ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِهَا أَكْثَرُ مِنْهُمْ وَقُرْبُهَا مُشْرِكُونَ مِنْ الْعَرَبِ غَيْرُ يَهُودٍ، وَقَدْ أَرَادُوا مَنْعَهُمْ مِنْهُ فَلَمَّا بَانَ لَهُ أَنَّهُ قَاهِرٌ قَسَمَ أَمْوَالَهُمْ كَمَا يَقْسِمُ مَا أَحْرَزَ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ وَخَمَّسَهَا وَسَأَلُوهُ وَهُمْ مُتَحَصِّنُونَ مِنْهُ لَهُمْ شَوْكَةٌ ثَابِتَةٌ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ، وَلاَ يَسْبِي ذَرَارِيِّهِمْ فَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْحُصُونِ وَمَنْ فِيهَا فَيَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْوَالِ إذْ رَأَى أَنْ لاَ قُوَّةَ بِهِمْ عَلَى أَنْ يَبْرُزُوا عَنْ الْحُصُونِ لِمَنْعِ الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُعْطِهِمْ ذَلِكَ فِي حِصْنٍ ظَهَرَ فِيهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَأُخْتِهَا وَصَارَتْ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَمَا ظَهَرَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى مَنْعِهِ إيَّاهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَهَكَذَا كُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلِ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ كَثِيرِهِ أَرْضٍ، أَوْ دَارٍ، أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَحُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْغَنِيمَةِ أَنْ تُخَمَّسَ، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِمَنْ أَوْجَفَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ‏.‏

وَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ لَمْ يَنَالُوا الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ بَلَدُ عَنْوَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قَسْمُهُ وَقَسْمُ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ مَنْ أَوْجَفَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَرِكَابٍ إنْ كَانَ فِيهِ عِمَارَةٌ، أَوْ كَانَتْ لِأَرْضِهِ قِيمَةٌ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَكُلُّ مَا وَصَفْت أَنَّهُ يَجِبُ قَسْمُهُ فَإِنْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ، وَلَمْ يَقْسِمْهُ فَوَقَفَهُ الْمُسْلِمُونَ أَوْ تَرَكَهُ لِأَهْلِهِ رَدَّ حُكْمَ الْإِمَامِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ مَعًا، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَأَيْنَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ الآيَةَ‏.‏ «وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ عَلَى مَنْ أَوْجَفَ عَلَيْهِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ مِنْ كُلِّ مَا أَوْجَفَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْضٍ، أَوْ عِمَارَةٍ، أَوْ مَالٍ»، وَإِنْ تَرَكَهَا لِأَهْلِهَا أَتْبَعَ أَهْلَهَا بِجَمِيعِ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ غَلَّتِهَا فَاسْتَخْرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَجَعَلَ أَجْرَ مِثْلِهِمْ فِيمَا قَامُوا عَلَيْهِ فِيهَا وَكَانَ لِأَهْلِهَا أَنْ يُتْبِعُوا الْإِمَامَ بِكُلِّ مَا فَاتَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالُهُمْ أَفَاتَهَا‏.‏

قَالَ‏:‏ فَإِنْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى بِلاَدٍ عَنْوَةً فَخَمَّسَهَا ثُمَّ سَأَلَ أَهْلُ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ تَرْكَ حُقُوقِهِمْ مِنْهَا فَأَعْطَوْهُ ذَلِكَ طَيِّبَةً بِهِ أَنْفُسُهُمْ فَلَهُ قَبُولُهُ إنْ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ يَضَعُهُ حَيْثُ يَرَى فَإِنْ تَرَكُوهُ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ بِمَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْبَلَ بِهِ أَرْضَهُ وَأَحْسِبُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إنْ كَانَ صَنَعَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ بِلاَدِ الْعَنْوَةِ إنَّمَا اسْتَطَابَ أَنْفُسَ أَهْلِهَا عَنْهَا فَصَنَعَ مَا وَصَفْت فِيهَا كَمَا اسْتَطَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفُسَ مَنْ صَارَ فِي يَدَيْهِ سَبْيُ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ فَمَنْ طَابَ نَفْسًا رَدَّهُ وَمَنْ لَمْ يَطِبْ نَفْسًا لَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى أَخْذِ مَا فِي يَدَيْهِ‏.‏

بِلاَدُ أَهْلِ الصُّلْحِ

أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ‏:‏ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِذَا غَزَا الْإِمَامُ قَوْمًا فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ حَتَّى عَرَضُوا عَلَيْهِ الصُّلْحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَرْضِهِمْ، أَوْ شَيْءٍ يُؤَدُّونَهُ عَنْ أَرْضِهِمْ فِيهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْجِزْيَةِ، أَوْ مِثْلُ الْجِزْيَةِ فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ وَأَعْطَوْهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُ قَبُولُهُ مِنْهُمْ إلَّا عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ، وَإِذَا قَبِلَهُ كَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا بِالشَّرْطِ بَيْنَهُمْ وَاضِحًا يَعْمَلُ بِهِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ وَهَذِهِ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا الَّذِينَ صَالَحُوا عَلَيْهَا عَلَى مَا صَالَحُوا عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا عَنْهَا شَيْئًا فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ هُمْ صَالَحُوهُ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ شَيْئًا، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ شُرَكَاؤُهُمْ فِي رِقَابِ أَرْضِهِمْ بِمَا صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا كَذَا مِنْ الْحِنْطَةِ، أَوْ يُؤَدُّوا مِنْ كُلِّ مَا زَرَعُوا فِي الْأَرْضِ كَذَا مِنْ الْحِنْطَةِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَسْتَبِينَ فِيهِ مَا وَصَفْت فِيمَنْ صَالَحَ عَلَى صَدَقَةِ مَالِهِ‏.‏

وَإِذَا صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا لِلْمُشْرِكِينَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَيَجْعَلُوا عَلَيْهِمْ خَرَاجًا مَعْلُومًا إمَّا شَيْءٌ مُسَمًّى يَضْمَنُونَهُ فِي أَمْوَالِهِمْ كَالْجِزْيَةِ وَإِمَّا شَيْءٌ مُسَمًّى يُؤَدَّى عَنْ كُلِّ زَرْعٍ مِنْ الْأَرْضِ كَذَا مِنْ الْحِنْطَةِ، أَوْ غَيْرِهَا إذَا كَانَ ذَلِكَ إذَا جَمَعَ مِثْلَ الْجِزْيَةِ، أَوْ أَكْثَرَ، وَلاَ خَيْرَ فِي أَنْ يُصَالِحُوهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا لِلْمُشْرِكَيْنِ وَأَنَّهُمْ إنْ زَرَعُوا شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ، أَوْ فَدَانٍ زَرَعُوهُ مَكِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ، أَوْ جُزْءٌ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَزْرَعُونَ فَلاَ يَنْبُتُ، أَوْ يَقِلُّ أَوْ يَكْثُرُ، أَوْ لاَ يَزْرَعُونَ، وَلاَ يَكُونُونَ حِينَئِذٍ صَالَحُوهُ عَلَى جِزْيَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلاَ أَمْرٍ يُحِيطُ الْعِلْمَ أَنَّهُ يَأْتِي كَأَقَلِّ الْجِزْيَةِ، أَوْ يُجَاوِزُ ذَلِكَ وَأَهْلُ الصُّلْحِ أَحْرَارٌ إنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ بِلاَدُهُمْ إلَّا مَا أَعْطَوْهُ مِنْهَا وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُخَمِّسَ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَيَدْفَعَ خُمُسَهُ إلَى أَهْلِهِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ إلَى أَهْلِ الْفَيْءِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ فِي مَالِهِ مَا اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ كَمَا وَصَفْت فِي بِلاَدِ الْعَنْوَةِ وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَ الْعَنْوَةِ وَالصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ جِزْيَةٍ كَمَا وَصَفْته يَمْنَعُ أَهْلَ الْجِزْيَةِ‏.‏

الْفَرْقُ بَيْنَ نِكَاحِ مَنْ تُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمُشْرِكِينَ حُكْمَانِ‏:‏ فَحُكْمٌ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ حَتَّى يُسْلِمُوا وَأَهْلُ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، أَوْ يُسْلِمُوا قَالَ‏:‏ وَأَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَطَعَامَهُمْ فَقِيلَ طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ فَاحْتَمَلَ إحْلاَلُ اللَّهِ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَطَعَامَهُمْ كُلَّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكُلَّ مَنْ دَانَ دِينَهُمْ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ فَكَانَتْ دَلاَلَةُ مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَا لاَ أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ دُونَ الْمَجُوسِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ الْمُرَادُونَ بِإِحْلاَلِ النِّسَاءِ وَالذَّبَائِحِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنْ لاَ تُنْكَحَ نِسَاءُ الْمَجُوسِ، وَلاَ تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ فَلَمَّا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ حُكْمَانِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تُنْكَحُ نِسَاؤُهُ وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ تُنْكَحُ نِسَاؤُهُ، وَلاَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نِعْمَتَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَمَا آتَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَهْرِهِمْ كَانَ مَنْ دَانَ دِينَ بَنِي إسْرَائِيلَ قَبْلَ الْإِسْلاَمِ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ فِي غَيْرِ مَعْنَى مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَنْكِحَ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ غَيْرِ نَسَبِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ إلَّا بِمَعْنَى لاَ أَهْلَ كِتَابٍ مُطْلَقٍ فَلَمْ يَجُزْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَنْكِحَ نِسَاءَ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ غَيْرَ بَنِي إسْرَائِيلَ دَانَ دِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِحَالٍ أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعْدٍ الْجَارِي، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ‏:‏ مَا نَصَارَى الْعَرَبِ بِأَهْلِ كِتَابٍ وَمَا تَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُهُمْ وَمَا أَنَا بِتَارِكِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ أَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَمَنْ كَانَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ يَدِينُ دِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نُكِحَ نِسَاؤُهُ وَأُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ وَمَنْ نُكِحَ نِسَاؤُهُ فَسُبِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وُطِئَ بِالْمِلْكِ وَمَنْ دَانَ دِينَ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ تُنْكَحْ نِسَاؤُهُ، وَلَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ، وَلَمْ تُوطَأْ أَمَتُهُ، وَإِذَا لَمْ تُنْكَحْ نِسَاؤُهُمْ، وَلَمْ تُوطَأْ مِنْهُمْ أَمَةٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَمْ تُنْكَحْ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِنْ كَانَ الصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَدَانُوا دِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَلِأَصْلِ التَّوْرَاةِ وَلِأَصْلِ الْإِنْجِيلِ نُكِحَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأُحِلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي فَرْعٍ مِنْ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فُرُوعٌ قَدْ يَخْتَلِفُونَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي أَصْلِ التَّوْرَاةِ لَمْ تُؤْكَلْ ذَبَائِحُهُمْ وَلَمْ تُنْكَحْ نِسَاؤُهُمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ بِدِينِهِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ حَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ حَيْثُمَا كَانَ مُحَارِبًا، أَوْ مُهَادِنًا، أَوْ مُعْطِيًا لِلْجِزْيَةِ لاَ فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنِّي أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ النِّكَاحَ بِبِلاَدِ الْحَرْبِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ وَالسِّبَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَمَنْ ارْتَدَّ مِنْ نِسَاءِ الْيَهُودِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ مِنْ نِسَاءِ النَّصَارَى إلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوْ رِجَالِهِمْ لَمْ يُقَرُّوا عَلَى الْجِزْيَةِ وَلَمْ يُنْكَحْ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ أَصْلِ دِينِ آبَائِهِ وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدُّوا إلَى مَجُوسِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ عَلَى دِينِهِمْ فَإِذَا بَدَّلُوهُ بِغَيْرِ الْإِسْلاَمِ حَالَتْ حَالُهُمْ عَمَّا أُخِذَ إذَنْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ وَأُبِيحَ مِنْ طَعَامِهِمْ وَنِسَائِهِمْ‏.‏

تَبْدِيلُ أَهْلِ الْجِزْيَةِ دِينَهُمْ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ أَصْلُ مَا نَبْنِي عَلَيْهِ أَنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دَانَ دِينَ كِتَابِيٍّ إلَّا أَنْ يَكُونَ آبَاؤُهُ، أَوْ هُوَ دَانَ ذَلِكَ الدِّينَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَتُقْبَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَثْبُتُ عَلَى دِينِهِ وَدِينِ آبَائِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ مَا ثَبَتُوا عَلَى الْأَدْيَانِ الَّتِي أُخِذَتْ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ عَلَيْهَا فَإِنْ بَدَّلَ يَهُودِيٌّ دِينَهُ بِنَصْرَانِيَّةٍ، أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيٌّ دِينَهُ بِمَجُوسِيَّةٍ، أَوْ بَدَّلَ مَجُوسِيٌّ دِينَهُ بِنَصْرَانِيَّةٍ أَوْ انْتَقَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ دِينِهِ إلَى غَيْرِ دِينِهِ مِنْ الْكُفْرِ مِمَّا وَصَفْت أَوْ التَّعْطِيلُ، أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يُقْتَلْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ بَدَّلَ دِينَ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِسْلاَمُ، وَقِيلَ‏:‏ إنْ رَجَعْت إلَى دِينِك أَخَذْنَا مِنْك الْجِزْيَةَ، وَإِنْ أَسْلَمْت طَرَحْنَا عَنْك فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَنَأْخُذُ مِنْك حِصَّةَ الْجِزْيَةِ الَّتِي لَزِمَتْك إلَى أَنْ أَسْلَمْت، أَوْ بَدَّلْت، وَإِذَا بَدَّلْت بِغَيْرِ الْإِسْلاَمِ نَبَذْنَا إلَيْك وَنَفَيْنَاك عَنْ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ؛ لِأَنَّ بِلاَدَ الْإِسْلاَمِ لاَ تَكُونُ دَارَ مُقَامٍ لِأَحَدٍ إلَّا مُسْلِمٍ، أَوْ مُعَاهَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ نَأْخُذَ مِنْك الْجِزْيَةَ عَلَى غَيْرِ الدِّينِ الَّذِي أُخِذَتْ مِنْك أَوَّلاً عَلَيْهِ، وَلَوْ أَجَزْنَا هَذَا أَجَزْنَا أَنْ يَتَنَصَّرَ وَثَنِيٌّ الْيَوْمَ، أَوْ يَتَهَوَّدَ أَوْ يَتَمَجَّسَ فَنَأْخُذَ مِنْهُ الْجِزْيَةَ فَيَتْرُكَ قِتَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا حَتَّى يُسْلِمُوا، وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ عَلَى مَا دَانُوا بِهِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ خِلاَفُ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الدِّينِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالْحِجَازِ قِيلَ‏:‏ وَكِّلْ بِهِ وَلَمْ يُتْرَكْ يُقِيمُ إلَّا ثَلاَثًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ بِغَيْرِ الْحِجَازِ لَمْ يُتْرَكْ يُقِيمُ فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَجْمَعُ مَالَهُ، فَإِنْ أَبْطَأَ فَأَكْثَرُ مَا يُؤَجَّلُ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مُدَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِغَيْرِ الذِّمِّيِّينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَكْثَرُ مُدَّةٍ جَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى ‏{‏غَيْرِ مُعْجِزِي اللَّهِ‏}‏ فَأَجَّلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَجَّلَهُمْ اللَّهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤَدِّيَ إلَيْهِ مَالَهُ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَغْنَمَهُ بِرِدَّتِهِ عَنْ شِرْكٍ إلَى شِرْكٍ لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَمَانِ لَهُ‏.‏

فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَوَلَدٌ كِبَارٌ وَصِغَارٌ لَمْ يُبَدِّلُوا أَدْيَانَهُمْ أُقِرَّتْ الزَّوْجَةُ وَالْوَلَدُ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ، وَأُخِذَ مِنْ وَلَدِهِ الرِّجَالِ الْجِزْيَةُ‏.‏

وَإِنْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ، أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ، وَلَمْ تُبَدِّلْ دِينَهَا وَهِيَ عَلَى دِينٍ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِهِ الْجِزْيَةُ أَقَرَّ وَلَدُهَا الصِّغَارُ؛‏.‏

وَإِنْ كَانَتْ بَدَّلَتْ دِينَهَا وَهِيَ حَيَّةٌ مَعَهُ أَوْ بَدَّلَتْهُ ثُمَّ مَاتَتْ، أَوْ كَانَتْ وَثَنِيَّةً لَهُ وَلَدٌ صِغَارٌ مِنْهَا‏.‏ فَفِيهِمْ قَوْلاَنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنْ يَخْرُجُوا؛ لِأَنَّهُ لاَ ذِمَّةَ لِأَبِيهِمْ، وَلاَ أُمِّهِمْ يُقِرُّونَ بِهَا فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ‏.‏ وَالثَّانِي لاَ يَخْرُجُونَ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ الذِّمَّةِ، وَإِنْ بَدَّلُوا هُمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا قُلْت فِي زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَجَارِيَتِهِ وَعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ وَمُدَبَّرِهِ‏:‏ أَقَرَّهُ فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ فَأَرَادَ إخْرَاجَهُمْ وَكَرِهُوهُ‏.‏ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ وَآمُرُهُ فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ مِنْ رَقِيقِهِ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ، أَوْ يَبِيعَهُ وَأَوْقَفَ مَالاً إنْ وَجَدْت لَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَلَكَهُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ لَهُ شَيْئًا فَلاَ يَنْشَأُ لَهُ وَقْفٌ وَنَفَيْته بِكُلِّ حَالٍ عَنْ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، أَوْ يَرْجِعْ إلَى دِينِهِ الَّذِي أَخَذْت عَلَيْهِ مِنْهُ الْجِزْيَةَ‏.‏

وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ إخْرَاجِهِ‏.‏ وَرَّثْت مَالَهُ مَنْ كَانَ يَرِثُهُ قَبْلَ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَيُوَرَّثُ الْوَثَنِيُّ الْكِتَابِيَّ وَالْمَجُوسِيَّ وَبَعْضُ الْكِتَابِيِّينَ بَعْضًا، وَإِنْ اخْتَلَفُوا كَمَا الْإِسْلاَمُ مِلَّةٌ‏.‏

جِمَاعُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَالْعَهْدِ وَنَقْضِهِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ جِمَاعُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَبِالْعَهْدِ كَانَ بِيَمِينٍ، أَوْ غَيْرِهَا فِي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ‏}‏، وَفِي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا‏}‏، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ بِالْأَيْمَانِ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ‏}‏ مَعَ مَا ذُكِرَ بِهِ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَهَذَا مِنْ سَعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ الَّذِي خُوطِبَتْ بِهِ وَظَاهِرُهُ عَامٌّ عَلَى كُلِّ عَقْدٍ وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوفِيَ بِكُلِّ عَقْدِ نَذْرٍ إذَا كَانَتْ فِي الْعَقْدِ لِلَّهِ طَاعَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا أَمَرَ بِالْوَفَاءِ مِنْهَا مَعْصِيَةٌ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ قَائِلٌ مَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْت وَالْأَمْرُ فِيهِ كُلُّهُ مُطْلَقٌ‏؟‏ وَمِنْ أَيْنَ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ عَهْدًا بِكُلِّ حَالٍ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ الْكِتَابُ ثُمَّ السُّنَّةُ «صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي امْرَأَةٍ جَاءَتْهُ مِنْهُمْ مُسْلِمَةً‏:‏ ‏{‏إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ‏}‏ فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ تُرَدَّ النِّسَاءُ، وَقَدْ أَعْطَوْهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ وَهُنَّ مِنْهُمْ فَحَبَسَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ وَعَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ الْآيَةُ‏.‏ وَأَنْزَلَ ‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا‏}‏ الآيَةَ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ قَائِلٌ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَنْ صَالَحَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ كَانَ صُلْحُهُ لَهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ، إمَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا صَنَعَ نَصًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ لِمَنْ رَأَى بِمَا رَأَى ثُمَّ أَنْزَلَ قَضَاءَهُ عَلَيْهِ فَصَارُوا إلَى قَضَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَنَسَخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَهُ بِفِعْلِهِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَكُلٌّ كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً فِي وَقْتِهِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَهَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا مَنْسُوخًا ثُمَّ يَفْسَخُهُ‏؟‏ قِيلَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ عَقْدًا مَنْسُوخًا، وَإِنْ كَانَ ابْتَدَأَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَهُ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ يُصَلِّيَ إلَى الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ قِبْلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ نُسِخَتْ‏.‏

وَمَنْ صَلَّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَسْخِهَا فَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالطَّاعَةِ لَهُ حِينَ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ قِبْلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ طَاعَةً لِلَّهِ قَبْلَ أَنْ تُنْسَخَ وَمَعْصِيَةً بَعْدَمَا نُسِخَتْ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاهَتْ فَرَائِضُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلاَ يُزَادُ فِيهَا، وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهَا فَمَنْ عَمِلَ مِنْهَا بِمَنْسُوخٍ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ فَهُوَ عَاصٍ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ نَبِيِّ اللَّهِ وَبَيْنَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْوُلاَةِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَفِي كُلِّ مَا وَصَفْت دَلاَلَةٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا غَيْرَ مُبَاحٍ لَهُ وَعَلَى أَنَّ عَلَيْهِ إذَا عَقَدَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ ثُمَّ تَكُونَ طَاعَةُ اللَّهِ فِي نَقْضِهِ، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا يُشْبِهُ هَذَا‏؟‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ هَذَا مِثْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ» «وَأَسَرَ الْمُشْرِكُونَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَخَذُوا نَاقَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ عَلَى نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذَرَتْ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا أَنْ تَنْحَرَهَا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ لاَ نَذْرَ يُوَفَّى بِهِ فَلَمَّا دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى إبْطَالِ النَّذْرِ فِيمَا يُخَالِفُ الْمُبَاحَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلَّ عَلَى إبْطَالِهِ الْعُقُودَ فِي خِلاَفِ مَا يُبَاحُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، أَلاَ تَرَى أَنَّ نَحْرَ النَّاقَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً لَوْ كَانَتْ لَهَا فَلَمَّا كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذَرَتْ نَحْرَهَا كَانَ نَحْرُهَا مَعْصِيَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا فَبَطَلَ عَنْهَا عَقْدُ النَّذْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْأَيْمَانِ «لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» فَأَعْلَمَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يَفِيَ بِالْيَمِينِ إذَا رَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا وَأَنْ يُكَفِّرَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُوَفَّى بِكُلِّ عَقْدِ نَذْرٍ وَعَهْدٍ لِمُسْلِمٍ، أَوْ مُشْرِكٍ كَانَ مُبَاحًا لاَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ فَأَمَّا مَا فِيهِ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ فَطَاعَةُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي نَقْضِهِ إذَا مَضَى، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَهُ‏.‏

جِمَاعُ نَقْضِ الْعَهْدِ بِلاَ خِيَانَةٍ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ هُدْنَةٍ بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ شَيْءٌ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى خِيَانَتِهِمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَإِذَا جَاءَتْ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنْ لَمْ يُوَفِّ أَهْلَ هُدْنَةٍ بِجَمِيعِ مَا هَادَنَهُمْ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ، وَمَنْ قُلْت لَهُ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُلْحِقَهُ بِمَأْمَنِهِ ثُمَّ لَهُ أَنْ يُحَارِبَهُ كَمَا يُحَارِبُ مَنْ لاَ هُدْنَةَ لَهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ‏:‏ أَخَافُ خِيَانَةَ قَوْمٍ، وَلاَ دَلاَلَةَ لَهُ عَلَى خِيَانَتِهِمْ مِنْ خَبَرٍ، وَلاَ عِيَانٍ فَلَيْسَ لَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ نَقْضُ مُدَّتِهِمْ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّ مَعْقُولاً أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ خِيَانَتِهِمْ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ النَّبْذُ إلَيْهِمْ لاَ يَكُونُ إلَّا بِدَلاَلَةٍ عَلَى الْخَوْفِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَا يَخْطُرُ عَلَى الْقُلُوبِ قَبْلَ الْعَقْدِ لَهُمْ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ أَنْ يَخْطُرَ عَلَيْهَا أَنْ يَخُونُوا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمَا يُشْبِهُهُ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ‏}‏ فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا عَقَدَ عَلَى الْمَرْأَةِ النِّكَاحَ، وَلَمْ يَرَهَا، فَقَدْ يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِ أَنْ تَنْشُزَ مِنْهُ بِدَلاَلَةٍ وَمَعْقُولاً عِنْدَهُ أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ إلَّا عِنْدَ دَلاَلَةِ النُّشُوزِ وَمَا يَجُوزُ بِهِ مِنْ بَعْلِهَا مَا أُتِيحَ لَهُ فِيهَا‏.‏